مفارق الطرق.. السورية

  • 2017/09/17
  • 2:35 ص

إبراهيم العلوش

السوري دائمًا يجد نفسه هذه الأيام على مفارق الطرق، والمفارق التي أمامه ليست متجاورة، أو متوازية، بل هي متناقضة الاتجاهات. فهو إما أمام حاجز للنظام، أو أمام حاجز لداعش، أو أمام حاجز لقسد، أو حاجز لتحرير الشام، أو للدفاع الوطني، وعليه أن يتدرب على كل الأدوار المسرحية التي تستلزمها عملية عبور الحاجز، لشراء ربطة خبز، أو حبة دواء، أو لرؤية مريض قد لا يجده على قيد الحياة.

وقد يستيقظ السوري في الصباح، ويجد أن بلدته صارت جزءًا من دولة جديدة، أو تحت هيمنة مجموعة جديدة، فهو قد يصبح جزءًا من الدولة الإسلامية الداعشية، ويعتبرونه من الأنصار دون أن يدري بذلك، وعليه الابتسام للمهاجرين المخدوعين باسم الإسلام، أو قد يجد نفسه جزءًا من “روج آفا” دون أن يعي معنى الكلمة، ولا يعرف اسم صورة القائد التي يجب عليه رفعها، ولا يعرف ماذا فعل صاحبها المبتسم، وقد يجد نفسه تحت القصف الروسي، أو القصف الأمريكي، أو قصف جيش الأسد، أو قد تدخل بيته قذيفة من حزب الله، أو من داعش، أو صاروخ من ألوية الصواريخ المتمركزة على الجبهة السورية- الإسرائيلية، طوال نصف قرن، ولم تطلق صاروخًا واحدًا من قبل.

الحواجز التي يعبرها إما حواجز للنظام مزينة بصور بشار وبوتين وحسن نصر الله (ثلاثي التدمير)، ويحرسها ضابط مصفر الوجه، ويطفح الحقد من ملامحه، أو حواجز لداعش مزينة بالرايات السوداء، ويحرسها شبح من التاريخ، الأول يسألك عن حبك للقيادة والمقاومة ومجموعة بركس، والثاني يسألك عن مبايعة البغدادي ونصرة هذا التنظيم الذي يتربص لروما بالفتح المبين.

يقف السوري في المكتبات فيجد أمامه عددًا كبيرًا من كتب تعليم اللغة الإنكليزية، والتركية، واليونانية، والألمانية، والفرنسية، والسويدية، والكردية، في خمسة أيام وبدون معلم، ولا يعرف إلى أي من هذه اللغات سينتهي مصيره الذي يدبّره المهرّب، والبلم، والدروب الملتفة عبر القارات، ولا يعرف أي البلدان سيصل إليها فارًا من سعير التدمير والخراب، فهو يتخيل نفسه في السويد مرفهًا ومنعمًا ومحاطًا بالجليد، أو في إقليم شمال العراق الكردي، أو في اليونان، أو على الشواطئ الإيطالية، حيًا أو ميتًا، مفلسًا أو لديه بقية مال، أو يتخيل نفسه تحت الرصاص وهو يركض على الحدود التركية، أو تلتقيه القوات الأردنية وقادتها (النشامى) الذين يتفحصونه، ويتأكدون من كونه بشرًا سويًا، وليس داعشيًا أو نصراويًا، ولا هو من عملاء النظام وأجهزته الاستخباراتية.

وقد يجد نفسه في القطر الجنوبي مسترجعًا أيام الوحدة السورية- المصرية، ولكن بنكهة مخابراتية تحقق بكل شيء في حياته، وتستنزف كل ما في جيوبه من مال، ناهيك عن الترجي والتملق لعبور بوابة المطار.

وقد يجد السوري نفسه عاريًا في غرفة التفتيش في أحد المطارات، ويتم جسّ جسده تمامًا مثلما يجسون أجساد المعتقلين في السجن البولوني، أو في سجن تدمر، أو في فروع التحقيق المزودة بالأفران الإيرانية الحديثة، التي لا تبقي من جسده أثرًا، ولا دليلًا، وكأنه مثل المسيح صعد إلى السماء بعد معاناته الطويلة على الصليب.

وقد يجد السوري نفسه ممثلًا صامتًا، بعد كل هذا التطور الكبير في السينما وتجاوزها للمرحلة الصامتة، فشراء غرض من محل تركي، أو طلب شيء من جار أجنبي، لا يمكن التعبير عنه إلا بوصلة إيمائية راقصة، ليحزر صاحب الدكان، أو الجار، ما يريده السوري، بعد كل هذه الإشارات، والإيماءات التي غابت عن فنون الدراما بعد رحيل شارلي شابلن.

وقد يتم سؤال السوري عن اسم قريته التي لجأ إليها، في تركيا أو في أوروبا، فيلفظ اسمًا بعيدًا عن اسم قريته التي يقع فيها مخيمه، نتيجة تغير الحروف ولفظها عبر اللغات، التي تتصارع أمامه على الشارات الصوتية، وعلى معاني الكلمات بكل تباين واختلاف، قد يصل إلى التناقض التام.

وقد يجد السوري نفسه على متن طائرة، ويتمنى ألا تحط على الأرض أبدًا، فهو قد سئم الأسئلة، وقرف من التفتيش، ومن النظرات المتشككة، يتمنى أن ترتفع الطائرة عاليًا، وتخرج عن مسارها لتضيع مثله على الدروب الملتوية والطويلة، أو فلتذهب إلى كوكب آخر، غير هذا الكوكب الذي يعذّبه كل يوم وكل ساعة، ليت الطائرة تتغير مهمتها، وتعبر إلى المجرات البعيدة، علّ السوري يرتاح قليلًا قبل الهبوط، وقبل السؤال والتفتيش والتدقيق بالأوراق، أو أنه قد يتمنى يائسًا، أن تتطاير شظاياه عبر الكون، علّهم يتأخرون بجمع أجزائه، وبدء السؤال الأخير له في قبره من قبل ملائكة الموت، الذين ينتظرون قفل ملفاته الدنيوية، فقد وصل إلى المفرق الأخير من مفارق طرق حياته القاسية.

وقد يجد السوري نفسه عند معبر الحدود البرية الأخير، وهو يسلّم هوية اللاجئ التي يحملها، ويعبر إلى البلاد التي لفظته وطردته، ويحاول أن يجد مكانًا له فيها، بعيدًا عن الحواجز، وعن تجار الحروب. وفي الصباح التالي، يجد نفسه مثقلًا بأحلامه الجميلة التي عاودته أخيرًا، وهو ينام محاطًا ببقايا بيته، يتنفس عميقًا، ويشعر بالامتلاء، وبالثقة، ويبدأ يومه الأول بترحيل الأنقاض بعيدًا عنه، وبعيدًا عن مستقبله ومستقبل بلاده.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي