عنب بلدي – حنين النقري
في الأرياف والمدن، شمالًا وجنوبًا شرقًا أو غربًا، في مختلف المحافظات السورية، كان “واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد”، أحد أعمدة مظاهرات الثورة السلمية، وأبرز هتافات السوريين فيها، مؤكدين عبره انتماءهم لسوريا واحدة لا تقسمها طائفة ولا دين ولا عرق، سوريا التي سرعان ما بدأت ملامحها الحقيقية تتبين، ليكتشفوا أنها ليست واحدة، وأن شعبًا واحدًا لم يكن يقطنها يومًا، مهما علت الأصوات وبحّت الحناجر بالتأكيد على ذلك، فهل يوحّد هتافٌ ما عمل نظام البعث على تجزئته وتقسيمه طيلة عقود؟
“أنا من دوما، لكنني كنتُ على الدوام فخورة بأنني من مواليد مدينة دمشق، وأن ذلك مكتوب كوسام على هويتي، وهو حال إخوتي جميعًا”، تقول منيرة (36 عامًا) مدرسة لغة عربية ومقيمة في تركيا.
درجة ثانية
تقول منيرة “كانت أمي تتباهى بين أقاربنا أنها أنجبتنا جميعًا في مدينة دمشق، وفي أرقى أحيائها (المالكي)، وتوصينا ألا نخطئ عندما نُملي معلوماتنا الشخصية أثناء السعي بمعاملة أو سواها، في بداية الثورة كان للأمر فائدته عند المرور بالحواجز، رغم أن قيد النفوس في دوما، لكن مكان التولد كان أحيانًا يشفع لإخوتي بالمرور على الحواجز”.
تؤكد منيرة أنها، ومعظم أبناء وبنات الريف، كانوا يحاولون إخفاء لهجاتهم التي تشي بأصولهم أثناء الدراسة الجامعية، تقول “لا يمكن إنكار وجود شعور معين، بأنك مواطن من الدرجة الثانية إن لم تكن من دمشق، ومواطن من الدرجة الثالثة إن كنت من الريف، في الجامعة مثلًا، وعندما كان أحدهم يعرف بالغلط أنني من دوما كان يسألني (أبوكي بيحلف بالطلاق!)”.
تشير منيرة أن أهل الريف لم يشعروا بقيمة انتمائهم لبلداتهم وضيعهم إلا بعد الثورة، تقول “الثورة أعادت لنا اعتبارنا، وهو أمر ينطبق على مئات المناطق والمدن التي عرفنا أسماءها بعد الثورة فقط، عندما كنتُ أقرأ اسم دوما على البث المباشر لقنوات الأخبار ومظاهرات بعشرات الآلاف فيها، كنت أحس بفخر حقيقي، قد يكون أهل دوما (حلّيفة طلاق)، لكن أهل سوريا كلها اليوم يحلفون برؤوسهم”.
الحب أعمى
“مهما اعتقدنا خلاف ذلك، نجاح الزواج بين أبناء الريف والمدينة مستحيل، وهي نتيجة تعلمتها بعد درس صعب” تقول ندى، اسم وهمي لشابة دمشقية.
بعد قصة حب أثناء الدراسة الجامعية، تقدم محمد لخطبتها من أهلها وفق العادات والأصول، تقول ندى “كان أهلي معارضين بشدة، محمد من إحدى بلدات الريف الدمشقي، بينما أنا ابنة حي الشاغور في دمشق، لكنني كنت أحبه بشدة وأصررت على موقفي، وهكذا بعد أخذ ورد وطول رفض، تماشى أهلي مع رغبتي دون مباركة حقيقية من طرفهم، كذلك لم يكن أهل محمد موافقين تمامًا، بل مجبرين برغبة ابنهم بالارتباط واختياره”.
إنذار مبكر
لم تتأخر المشاكل الناجمة عن اختلاف الثقافة بين العائلتين في الظهور، إذ بدأت منذ الاتفاق على المهر والخطبة وكتب الكتاب، تقول ندى “رغم تجاور الريف والشام إلا أن العادات مختلفة، قيمة المهور في المدينة أغلى بأضعاف على سبيل المثال، طبيعة جهاز العروس مختلفة، ليس عندنا في الشام زبادي صيني، كما أن إدارة الاحتفالات مختلفة، فمثلًا في الشام يكون أهل العروس مسؤولين عن حفلة الخطبة، وأهل العريس مسؤولون عن حفلة الزفاف، لكن في الريف الحفلتان كلتاهما من مسؤولية أهل العريس، فأعراف من التي ستطبق هنا؟ رغم أن هذه المشاكل المبكرة كانت إشارة ينبغي أن أنتبه لها عن حجم اختلاف الثقافات إلا أنني كنت مصرة على موقفي ورغبتي في إتمام الدرب مع محمد”.
ما حسبته ندى مشكلات، كان مجرد مقدمات بسيطة لا تقارن بما سيأتي لاحقًا، وما كان يحل بالتراضي و”المخاجلة” حسب تعبيرها، صار شجارات بأصوات عالية بعد الزفاف، تشرح ندى قائلة “محمد كان إنسانًا جيدًا، لكننا لم نستطع التفاهم بمجرد أن أصبحت على ذمته، عقليتنا مختلفة جدًا، وأولويات الحياة مختلفة، كنا نختلف على كل شيء، كل شيء، بدءًا من موعد الغداء، وطبيعة الطعام على الإفطار والعشاء، وليس انتهاءً بعزائمه المفاجئة لأصدقائه، وطريقة لباسي، وزيارات أهلي، وهكذا صارت المشاكل تتفاقم وتزداد، على حساب الحب والود بيننا، لم أتخيل ذلك يومًا، لكنني وصلت لمرحلة لم أعد قادرة على تحمل ضغط الحياة والشجارات، وهكذا طلبت الطلاق بعد ثلاثة أعوام”.
أكيد لا!
غالبًا ما يضرب المثل بأهالي دمشق بالانتماء الشديد لمدينتهم، فما بين “خارج السور” و”داخل السور” تختلف تسميتك وانتماؤك، وهو ما يحاول أهالي بعض المدن الأخرى نفيه عن أنفسهم، ومن بينهم صهيب، 29 عامًا مهندس كهرباء من مدينة حمص، والذي كان يؤكد لنا أنه بالنسبة لمدينته فإن الفروق بين الريف والمدينة غير موجودة، لكن عندما توجهنا بسؤال “هل يعني ذلك سهولة الخطوبة والزواج بين الريف والمدينة” أجاب بشكل قاطع “أكيد لا، الزواج مسألة مختلفة، وله علاقة بالتكافؤ والانتماء لثقافة واحدة، لماذا يوقع العرسان أنفسهم في مشاكل ناجمة عن الفروق الثقافية والعلمية، بصراحة من النادر أن تجدي زيجة أحد طرفيها من الريف الحمصي والآخر من حي من أحياء مدينة حمص، الريف لهم عاداتهم وللمدينة عاداتها، وليس في ذلك انتقاص لأي طرف”.
يطرح صهيب مثالًا على عدم الاختلاط بين الثقافات في سوريا، يقول “كل عائلتنا كانت تقطن في حي أو حيين من أحياء حمص، يمكننا أن نزور جميع أقارب أبي وأمي خلال ساعتين، وباقي سوريا لم يكن لنا فيها قريب واحد، معارفنا وجيراننا وأهلنا جميعهم هنا، ولم يكن لدينا أدنى احتكاك بأي شخص من خارج هذه الثقافة، حتى عند الرغبة بالزواج، نحرص على أن نبقى في نفس البيئة، ويلي متلنا تعو لعنا”.
حكومة سياح
مكّن الاحتكاك بالشعوب الأخرى السوريين من إدراك حجم مشكلاتهم الداخلية، وهو ما تقول عنه منيرة بعد انتقالها إلى تركيا، “عندما عشت في تركيا بدأت أدرك كم سوريا مقسمة مناطقيًا، وأن انتماء السوريين الحقيقيّ لمناطقهم وليس للبلد كاملًا، وهو أمر له علاقة أساسية بسياسة الدولة وقوانينها، فمثلًا تجدين في سوريا جميع الفعاليات والمعارض والاهتمام منصبًا على العاصمة دمشق، ومن بعدها العاصمة الاقتصادية حلب، ما هي نسبة اهتمام النظام بريف دمشق مقارنة بدمشق؟ شبه معدومة، وهي النتيجة نفسها عندما ننظر لاهتمامه بحماة مثلًا مقارنة بدمشق”.
وتشير إلى أن ذلك ينعكس بوضوح على الوجهات السياحية، فتقول “الحكومة مثل السيّاح لا تتعرف إلا على دمشق والمناطق السياحية المحيطة، وهو أمر ينعكس بطبيعة الحال على أبناء البلد، لماذا سأزور أنا ابنة دوما الحسكة إن لم يكن هناك لا أهل ولا أقارب ولا فعاليات أزورها هناك؟ وهو أمر وجدتُ نقيضه في تركيا، فلكل ولاية مهرجانات ومعارض وفعاليات تميزها وتجذب زوارها”.
تؤكد منيرة على أن التشبيك بين المواطنين من كافة المناطق مسؤولية الحكومة، وتدلل على فكرتها بمثال، تقول “نقطة أخرى لفتتني في الشعب التركي وهي مدى اختلاطه، جيراني على سبيل المثال، الأب من أنقرة والأم من دوزجة، الابن بدأ العمل في سيرت وتزوج شابة من بورصة ويعملان الآن في إزميت، فيما تعمل أخته في اسطنبول، نظام العمل والتوظيف يحتم اختلاط الشعب ببعضه وتغيير أماكن سكنه، ما يتيح بناء علاقات مع أبناء المدن والأرياف الأخرى والتعرف على عاداتهم وطبائعهم، وهو ما يذيب الفوارق بينهم بشكل كبير”.
قوقعة
لا ينكر أبو زياد، تاجر حموي مقيم في تركيا، وجود ما أسماه حواجز نفسية بين السوريين، وهو أمر وإن تلاشى في بداية الثورة لكنه تعزز بشكل أسوأ بعد عسكرتها حسب تعبيره، يضيف “الموضوع بمجمله من تخطيط النظام وتنفيذه على مدار عقود، حماة ﻷهل حماة، حلب لأهل حلب، الشام لأهل الشام، وهكذا كل المحافظات، من النادر أن تجدي حلبيًا يقطن في الشام، أو حمصيًا يقطن في اللاذقية، النظام كله مُعد لتقوقع كل مجتمع على نفسه، وعدم اختلاطه بسواه، وهو أمر ينطبق على أهل الريف والمدينة انطباقه على الفروق بين كل مدينة وأخرى، حتى عند بلوغ الشاب سن العسكرية، تجدين أهله يدفعون كل الرشاوى المطلوبة ليكون بالقرب منهم، كل هذا برضا من النظام ومباركة منه”.
يلفت أبو زياد إلى حادثة جرت أمامه في المعسكر الجامعي قبل سنوات “كنا في المعسكر الجامعي عندما وقع خلاف ذو علاقة بالمناطق بين زميل من دير الزور وآخر حمصي، عندها لم يتمالك الديري نفسه وكأنه ينفي عن نفسه وأهالي دير الزور صورة لطالما وسموا بها، كان يصرخ بنا (حتى الآن لا زال البعض يظننا نعيش في الخيام ونتنقل على ظهر الدواب، دير الزور مدينة مثل مدنكم، ونحن مثلكم ندرس ونتعلم، وكلمة شاوي ليست شتيمة)”.