خطيب بدلة
معبر باب الهوى الذي يسميه الأتراك “Cilvegözü” وتعني “العين المبللة”، أعلنتْ إدارتُه، قبل أيام، مواعيدَ عودة بعض اللاجئين السوريين الذين سُمح لهم بزيارة أهاليهم في المناطق المحررة خلال عيد الفطر، أي قبل ثلاثة أشهر، ونَظَّمت بدخولهم جداول اسمية. (المصدر: عنب بلدي).
هذا الخبر، الذي يبدو عاديًا، جعل سيلًا من الذكريات يتدفق إلى ذاكرتي، بدءًا من 10 آب 2012 حينما جئت بسيارتي من معرة مصرين إلى باب الهوى، سالكًا طريقًا جبلية، تتفرع عن بلدة سرمدا، بقصد أن أتجنب المرور بنقطة عسكرية صغيرة كانت هي المتبقية لنظام الأسد في المنطقة.. وعبرتُ الحدود، وكان العبور، في تلك الأيام، سهلًا، بسيطًا، وكأنه ترجمةٌ واقعية للأغنية التي كان يغنيها مطربو الأعراس والحفلات في سوريا وتقول: لأَعْبُرْ على تركيا، وأشربْ تُتُنْ وأكَيِّفْ.
ومع أنني “مبطل شرب التُتُنْ”، فقد عبرتُ، وأقمتُ في مدينة الريحانية التي تبعد عن المعبر سبعة كيلومترات. استأجرتُ بيتًا واستقدمتُ زوجتي وابني الصغير.. وكنتُ، خلال إقامتي هناك، مثل مكوك الحايك، رايح جاية على المعبر، أستقبل مَنْ يأتي لزيارتنا من البلد، وأودع الذين انتهت زيارتهم، وأتفرج، في كل مرة، على السيارات الشاحنة الصغيرة التي تحمل لاجئين جددًا، قادمين من بلادنا، مع ما يلزم لهم من الأمتعة والمواد الغذائية، وآخرين عائدين إلى سوريا، وكأن المقام في هذه البلاد لم يطب لهم.
في هذا المعبر الجميل نَشَطَتْ تجارةُ العبور، وكان فتيةٌ أتراك ذوو بشرة سمراء يقفون في مكان بارز عند المدخل والمخرج ويرددون بالعربي: تهريب، نظامي، تهريب، نظامي.. فالداخلون بشكل نظامي يحتاجون لمن يساعدهم في استكمال إجراءات خَتْم الجوازات ونقل الحقائب، والذين لا يمتلكون جوازات سفر يضطرون للدخول تهريبًا، وكان التهريب وقتئذ سهلًا، حتى إن أحد أبناء معرة مصرين كان قادمًا لزيارة أقاربه، وقرر أن لا يدفع الـ 50 ليرة تركية التي يتقاضاها المهربون لقاء إدخال النفر، فكان يتوكل على الله ويدخل، فيمسكه الجنود ويعيدونه، ثلاث أو أربع مرات حتى ملوا منه وتركوه يعبر.. وفي وقت لاحق قررت الحكومة تشديد الرقابة على المعابر ومسارات التهريب، وبقي السوريون مستمرين في الدخول، إما بشكل نظامي من باب الهوى، أو عبر وعاء كبير يسمى “الحَلّة” يُطَوِّفُونَهُ فوق نهر حدودي ضحل، ويُدْخِلُون فيه الرجال والنساء والأطفال.
كان المقيمون في هذه المناطق الحدودية يشعرون بأن إقامتهم مؤقتة، وما هي إلا عضة كوساية ويسقط ابن حافظ الأسد الذي وصل صيتُ إجرامه إلى أقاصي الأرض، ويرجعون، ومَنْ كان يستأجرُ بيتًا لا يدفع سوى أجرة شهر واحد، وكثيرون لم يُقْدِمُوا على شراء مدفأة وحطب للشتاء الذي أصبح على الأبواب، على أساس أننا “مو مطولين، بس جايين نشرب تُتُنْ ونْكَيِّفْ”.
الآن، بعد سبع سنوات عجاف، ها نحن أولاء ننظم دور الدخول والخروج إلى تركيا، (مع أنو مبطلين التتن)، والأسد المجرم مايزال يقتل السوريين، بنجاح!