تراها جنة أم نار.. بعد قبر النزوح

  • 2014/05/18
  • 8:51 م

عنب بلدي ــ العدد 117 ـ الأحد 18/5/2014

بيلسان عمر

نفهم من الموت أنه انتقال من دار الدنيا الفانية، إلى دار الآخرة الباقية، تصعد الروح إلى الباري، ويبقى الجسد في تلك الحفرة المعتمة، وحيدًا مع عمله وما جناه في سني حياته، تاركًا ما ملكت يمينه، وما زرع حتى وإن لم يحصد بعد، مفارقًا الأهل والخلّان، وكل كنوزه وإن قلت، مكتفيًا بمتري قماش أبيض، وعمل صالح، لا يدري كيف ولا بأي أرض يموت، فينتقل إلى دار خلد لا نصب فيها ولا تكديس لدرهم أو دينار، ولا حتى عبادة الحجر والبشر، وترك رب البشر عند الحاجة القصوى.

واليوم نعايش ما يشبه هذا المفهوم، تركنا مدننا المحاصرة، وخرجنا لننجو بأرواحنا، لم نطلب الخلود في الدار الأخرى، وإنما ابتغينا أن لا نكون ممن يلقون بأيديهم إلى التهلكة، حملنا حملًا خفيفًا من متاع دنيانا تلك، فلما أثقلت بنا الدار الجديدة، وضعنا حملنا، وفررنا مرة أخرى بأرواحنا، وهكذا مرات ومرات، مودّعين أحبة في كل دار، وتاركين آخرين في الدار الأولى ننتظر لقياهم، وأرواحنا معلقة بهم لا بركام تلك الديار، فبتنا نصاب بعمى الألوان بدونهم، نتحسس أيامنا فإذا بها وقد غلفها الشوق والحنين لمعتقل خلف القضبان، وشهيد في رحاب الرحمن، ومحاصر نتوسل المولى أن يهلك الظالمين بالظالمين ويخرجه من بينهم سالمين، وجريح ومهاجر وآخر حاله مثلنا نازح من دار لأخرى، تاركًا كما فعلنا كل ما جناه في سني عمره، وخزنه في الرخاء، فلم يسعفه ولو قيراط منه في هذه الشدة.

نعيش في قبر النزوح بمفردنا، بعيدًا عن متاعنا الذي جمعناه في مدننا تلك، وعن أهالينا الذين غُيّبوا لسبب أو لآخر، وحيدين هذه المرة في تجربة تسبق تجربة الموت تلك، أو ربما نحن الأحياء أموات لا نستشعر حتى هذه الخاصية فينا، نتحسس هذه المرة آلام النزوح، بين مغترب داخل الوطن من الفقر والحرمان والخوف، ومغترب خارج الوطن يحيا مرارة حق العودة.

لا ندري هل ستصقل هذه التجربة ذواتنا، فنخرج منها بعبر عن عدم التعلق ببهرج الحياة وزينتها  الفانية، أم تُراها ستسحقنا وتذرو حتى ما بقي في ذاكرتنا من أحلام، وما تحمله أرواحنا من بقية حياة، فاليوم وقد باتت حقيبة المتاع الخفيفة بيتنا، وكل متاعنا، نتمسك بها كمن يتمسك بما بقي من أمل، ونأكل لقيمات نقيم بهن أصلابنا، غير آبهين بما تحتويه من سعرات حريرات، أو إن كانت لا تحمل حتى أدنى قيمة غذائية، ونفترش الأرض سريرًا بكل خشونتها، نقلّب في ذاكرتنا أيامنا الخالية تلك مع صور الأحبة، نقتات منها كل ليلة علّها تجبر القلب الذي انكسر، ثم ننام على حلم، لا ندري أنحلم بالعودة لتلك الأيام؟ أم نرسم صورة لأيام أجمل منها ومن هذه، لنستيقظ وحيدين مرة أخرى.

تُرانا فقدنا قابليتنا للحياة، أم أننا بتنا نعارك الحياة قبل أن تعركنا وتطيح بنا إلى ذاك القبر المظلم، كما فعلت مع غيرنا، أو ربما نتجاهلها، فلم تعد تعنينا شيئًا أكنا أموتًا أم أحياء، فالحالتين سواء، طالما نهايتهما قبر يكمل فيه أحدنا وحيدًا، وها نحن في قبر النزوح وحيدين، ننبش تراب الأنقاض المتراكمة فوقنا جراء ما يجري، باحثين عن بصيص أمل في تفاهة ما يجري معنا أمام عظيم ما يعصف بالبلاد، فحتى مشاكلنا باتت تخلق من اللاشيء لنفتعل قصة ننفض بها غبار الأحداث عن قلوبنا الكهلة.

نتكوم اليوم علىذواتنا كمتاع نسيه البائع في أحد الرفوف، ننتظر أحدهم ينتشلنا من مكاننا، يخرجنا من قبر النزوح هذا، لا ندري أإلى جنة بعده، أم نار؟! ولكن ما يطمئن عقولنا –نعم عقولنا- فقلوبنا قست مما عاينت بصيرتها، بأننا ننتظر رياح تغيير تنقلنا هناك، حيث لا نصب ولا غل ولا أحقاد، لا ريحًا تعصف بنا وبحقيبة متاعنا الخفيفة تلك! نزمّ شفاهنا، ونتشدق ببضع كلمات علّ القادم يحمل معه لنا الخير، وكسرات من فتات أحلام نسجناها يومًا بخيوط يبدو أنها أوهن من خيط بيت العنكبوت، أو ربما نحن الذين نقضنا غزلنا بعد قوة، وصرير أسناننا يملأ المكان لا بردًا بل إصرارًا على الخروج من عتمة القبر هذه، نراقب ثقوب الجدران بحثًا عن نسيم يحملنا مع حبيبات الطلع إلى هناك، حيث نكمل سيمفونية حياتنا خارج القبر، دونما أن ندري أهي جنة تنتظرنا أما نار مستعرة.

مقالات متعلقة

قراء

المزيد من قراء