كعك وألعاب.. وقنابل

  • 2017/09/03
  • 2:15 ص

إبراهيم العلوش

أمام هذا الدمار والتشتت ليس لدى السوري غير صناعة الأمل، ليس لديه إلا إعادة الفرح للأطفال، وللأصدقاء، وله نفسه، إن استطاع إلى ذلك سبيلًا.

تختفي النسوة في المطابخ الفقيرة والمحاصرة ليبدعن شيئًا، ولو كان صغيرًا من ذكريات العيد، وحلوياته، ويقدمنه مع الأغنيات الصغيرة التي كان يترنم بها الأطفال السوريون عبر الأعياد التي عاشوها، ويضرب الرجال أخماسًا بأسداس علّهم يستطيعون انتزاع مبلغ بسيط لمشوار العيد، وجعل الأطفال يشعرون بالتغيير في يوم العيد الذي يليق به الفرح والبهجة والجلال، عبر اللباس، وعبر الألفاظ والتعبيرات التي تحفر على جدار الزمن مشاعر فرحهم بيوم العيد، رغم كل الظلام والقهر الذي يحاصرهم.

ولأن التجمع سمة ليوم العيد، فإن المهاجرين في كل مدينة يتجمعون في مكان ما، في متجر كبير أو في ساحة أو أمام جامع، غير آبهين باتهام أدونيس لهم بالإرهاب، ولا بتحذيره للعالم من خطرهم على مستقبل الحداثة، وعلى حقوق المرأة، وعلى استمرار بشار الأسد وعائلته في الحكم إلى الأبد، وهذا بيت القصيد!

في أورفا التركية كان الكثير من اللاجئين السوريين يتجمعون في مول “البيازة” الواسع، يخرجون من بيوتهم المهترئة ومن حواريهم المتناثرة ليتجمعوا في يوم العيد محاولين صناعة الفرح لأطفالهم الذين يلعبون، ويأكلون، ويستمتعون بمظاهر الرفاهية التي حرموا منها بالتهجير والقصف والحصار، بعض العائلات لا تمتلك ثمن شيء تشتريه، ولكنهم يتخذون المكان بمثابة مكان عام يتجولون فيه ويستعيدون ذكرياتهم في مدنهم وفي أسواقهم التي أصبحت نائية، هذا النوع كان لدينا منه في سوريا، وهذه الماركة لم نعرفها، وهذه الألعاب لعبنا بها في دمشق أو في حلب، وكان العاملون في المكان لا يضايقون اللاجئين ولا يتبرمون من تجمعهم ولا من قلة الأشياء التي يشترونها.

لقد أثبت الأتراك في أورفا، ومن كل الأصول العرقية التركية، والعربية، والكردية، صدقًا وتعاطفًا مع السوريين، ومدوا يد المساعدة لهم بكرم وخاصة في بدايات المحنة والتهجير في أعوام 2013 و2014، وكان للجامع التركي صورة المحسن العفيف والكريم والمتعاطف، في حين كانت التنظيمات اليسارية في أورفا شديدة التكبر والفوقية في تعاملها مع السوريين، وكأنها مثل معظم اليسار العربي، كانت تسر تأييدها للنظام الملون بالعلمانية والتقدمية الزائفة، ليغطي مجارير الطائفية، والحقد، والوضاعة التي طافت فوق المستويات المألوفة، وصارت أفعال الشبيحة مثالًا للعنصرية وللكراهية المنقطعة النظير، وقد اعتمدت منظمات التمييز العنصري اليمينية عبر العالم صورة بشار الأسد كمجرم مثالي، لا يمتلك قلبًا، ولا عواطف تكبح الكراهية والتدمير اللتين ينتهجهما في القصف، والتعذيب، والتهجير، ولا في استضافة الإرهابيين والطائفيين لمعاقبة الشعب الذي قال لا للقمع، ولا للاستبداد، وطالب بالحرية.

العيد في الرقة المحاصرة يمر على الناس فيها وهم يأكلون الحشائش، كما قالت صحيفة “التايمز” اللندنية في تقرير لها عن الرقة وعن أهلها المحاصرين. وصار ماء الفرات، الذي لا يبعد عن المدينة إلا بضع مئات من الأمتار، حلمًا للعطشى والمحاصرين بين مفخخات داعش، وطائرات التحالف، وأصبح التجول في العيد شبه مستحيل، خاصة وأن الجثث متناثرة في الشوارع، ولا يمكن جمعها، ناهيك عن الركام الذي يسد الطرق، ويثير الريبة بوجود قناص، أو مفخخة، أو بصدور روائح الجثث التي تعفنت تحت الأنقاض، بلا فرق إنقاذ، ولا قبعات بيضاء، ولا سوداء، فالعالم تحجّر قلبه على الرقة، وعلى أهل الرقة، وصار يتصرف بكل عنجهية وتكبّر، ضد هذه المدينة الصغيرة والوادعة التي بدأ النظام بتدميرها، وها هي القوات الغازية تتعاون مع داعش لمحو عاصمة هارون الرشيد من الوجود!

في الأعياد يقيم تجار الحرب الاحتفالات الصاخبة والمسرفة في ترفها، ويرقصون على جثث السوريين، وعلى دمارهم غير آبهين إلا بالمكاسب التي يجنونها، سواء من النظام، أو من المتاجرة مع داعش، أو من التعاون مع المحتلين الإيرانيين، أو الروس أو البي كي كي ومشتقاتهم.

لكن المرأة السورية مصرة على الوقوف في المطبخ لتصنع شيئًا يثير الفرح والنشوة في حياة عائلتها المحاصرة أو النازحة أو اللاجئة، النساء تلونّ حياتنا، وتتفنّن بمغافلة الحزن، وانتهاب لحظة الفرح.. فالسوريات والسوريون سيجعلون العيد المقبل أفضل، لأنهم يومًا بعد يوم يخرجون من حالة الفزع والارتباك، ويعاودون بناء حياتهم من جديد، وسيتفتحون من جديد مثل أزهار تنبت على الصخور.. صخور الغربة، واللغات الصعبة، والمجتمعات الغريبة، وصخور الاعتقال، والحصار، والعوز، واليتم، والقهر.. إنهم يثقون بأنفسهم يومًا بعد يوم، وسيعاودون سلوكهم المعتاد بالتسامح والوسطية والطموح الذي لا يعرف حدودًا في صناعة الحياة والفرح.

لكل معتقلينا، ولكل الصابرين، ولكل زارعي الأمل، نقول كل عام وأنتم بخير!

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي