البحث عن الهوية
عنب بلدي ــ العدد 116 ـ الأحد 11/5/2014
منذ أن بسطت الثقافة الغربية سيطرتها العالمية ونجحت في تطوير مجتمعاتها، أصبح مفهوم «الحضارة العالمية» أحد نتاجات الحضارة الغربية، وحاولت النخب الغربية أن تبشر بمنهجها وطريقتها في المجتمعات غير الغربية، ورسالتها: «لكي تنجح يجب أن تكون مثلنا، طريقنا هو الطريق الوحيد».
هل هذا صحيح؟ أليس هناك حل آخر للتحديث دون تغريب؟
تبنى مصطفى كمال أتاتورك في بداية القرن العشرين سياسة التغريب، ورأى أنها الطريق الوحيد لتحديث تركيا، حرّم لبس الطربوش، وشجّع الناس على لبس القبعات، وأصدر قرارًا بأن تُكتب اللغة بالحروف الرومانية بدلاً من الحروف العربية، وألغى المحاكم الدينية التي كانت تطبق الشريعة الإسلامية، وجاء مكانها بنظام جديد مؤسس على القانون السويسري، وفرض المبادئ الست «الكمالية» وهي الشعبية والجمهورية والقومية والعلمانية والدولانية والإصلاحية.
في بدايات القرن الواحد والعشرين يتبنى بعضنا الرؤية الكمالية، فيبشّرون بالديمقراطية الغربية باعتبارها الحل الوحيد للتخلص من ديكتاتوريات ذبحتنا، وينادون بالعلمانية للتخلص من مؤسسة دينية تخلت عنا، ويتبنون «المواطنة» لمواجهة أحكام الشرعية الإسلامية، ولسان حالهم يقول: «عندما نقبل بالنموذج الغربي صراحةَ، عندها فقط يمكننا أن نتقدم»، ويضيفون «كيف يمكنك التغلب على الصراع بين الإسلام والتحديث في المسائل الاقتصادية مثل فوائد البنوك، والمواريث، وعمل المرأة»، لا بد إذًا من تغريب من أجل التحديث وفق هذا الرأي.
في مواجهة التيار «الكمالي» برز تيار آخر رأى أن التحديث ينطلق من الحفاظ على الثقافة المحلية والتمسك بها والعودة إلى «الأصول». هذا التيار انتشر في آسيا عمومًا وفي الصين خصوصًا. فمنذ بداية الثمانينات بدأت الحكومة الصينية تنمي الاهتمام بالديانة المحلية الكونفوشية، وأعلن قادة الأحزاب أنها «الاتجاه الرئيسي» للثقافة الصينية. يعتقد الآسيويون أن نجاحهم الاقتصادي جاء نتيجة لثقافتهم الآسيوية، ويقارنون بين قيم الثقافة الآسيوية التي هي كونفوشية في الأساس: النظام، الانضباط، مسؤولية الأسرة، العمل الجاد، الجماعية، الاعتدال، وقيم الغرب المتمثلة في الانغماس الذاتي والكسل والفردانية والجريمة وعدم احترام السلطة، وكلها مسؤولة عن انهياره.
إن نجاح الآسيويين الاقتصادي وقدرتهم على تحقيق معدلات تنمية سنوية استثنائية فاقت 10% أحيانًا، زادهم ثقة بثقافاتهم، فانتقلوا للتسويق لها، وأعلنوا بعلو الصوت أنه إذا كانت الولايات المتحدة تريد أن تنافس الشرق فعليها أن تتعلم شيئًا أو أكثر من المجتمعات الشرق آسيوية.
يتبنى بعضنا أيضًا فكرة «الأصولية»، يقولون: ألا يكفينا قرن كامل من التقليد وتبني مختلف النظريات الشرقية والغربية؟ ألم نتسابق لاعتناق الاشتراكية والقومية يوم كانتا «موضة» كما هي الديمقراطية اليوم؟ ألم يعترف الغرب أن الديمقراطية هي وسيلة للسيطرة على الشعوب وخلق «فوضى» … «خلاقة»؟.
ثم إن كانت العلمانية وسيلة الغرب للتخلص من الحكومات الدينية «الثيوقراطية» التي سيطرت عليه في القرون الوسطى وصنعت تخلفه، فمتى حكمتنا «الثيوقراطية» حتى تكون العلمانية «مخلصنا».
ألم يكتشف الغرب أن فوائد البنوك كانت السبب الرئيسي لأزمته الاقتصادية، ألا تنادي المجتمعات الغربية بالعودة إلى قيم الأسرة بعد أن كوتهم قيم «الانفلات” و”الانحلال الأخلاقي». بعد كل ذلك ألا يحق لنا أن نقول -والقول للأصوليين- إن الديمقراطية والعلمانية والقيم الغربية «كفر» وإن «الإسلام هو الحل»؟
يقول الترابي «الدين هو محرك التقدم، والإسلام النقي هو الذي سيلعب دورًا في الحقبة المعاصرة، الدين لا يتعارض مع تطور الدولة الحديثة».
في مكان ما بين التيارين السابقين وقف دعاة ماسُمي بـ «الإصلاحية» ليحاولوا الجمع بين التحديث والمحافظة على القيم الأساسية والممارسات الموجودة في ثقافة المجتمع المحلية. في ثلاثينات القرن التاسع عشر نادى «محمد علي» بـ «التحديث التقني دون تغريب ثقافي زائد»، ورفع اليابانيون الشعار «الروح اليابانية… التكتيك الغربي»، هؤلاء لا يرفضون التصنيع ولا التنمية ولا العلم ولا التكنولوجيا، هم فقط يعلنون استقلالاً ثقافيًا عن الغرب فيقولون: «سنكون حديثين ولكننا لن نكون أنتم».
بعض ثالث منا يعتقدون أن هذا هو طريقنا للخلاص، هم يتفقون مع الأصوليين في نقد العديد من الفلسفات الديمقراطية ويرفضون تقديسها ويذهبون إلى نقد ممارساتها التي قد تتنازل عن قيم المجتمع الخُلُقية لكسب صوت ناخب «شاذ»، كما أنهم يرفضون مبدأ «الدين لله والوطن للجميع» معلينين أن «الحاكمية لله»، ولكن ألم يسمح لنا الله ببعض المساحة للحركة؟ ألم يقل محمد (ص): «أنتم أعلم بأمور دنياكم مني»، ألم يأمرنا ربنا بالشورى فرميناها جانبًا لما رضينا «بالدولة العضوض»، ثم كان أن طور الغرب ديمقراطيته بآليات تفوقت أو تفوق بعضها؟!
ما المشكلة إذًا في الاستفادة من بعض آليات الديمقراطية الغربية تحت ظل «حاكمية الله» وما الخطأ في البنوك إن لم تكن ربوية، وإن كنا نرفض علمانية فصل الدين عن الدولة، ألسنا بحاجة لإعادة تعريف دور رجال الدين ومهامهم ووظائفهم لئلا يكونوا أداة بيد الدولة العضوض، دولة القهر والاستبداد؟.
يقول برودويل: «الإسلام والتحديث لا يتصادمان، المسلمون المتدينون يحضّون على العلم، ويعملون في المصانع بكفاءة، ويستخدمون الأسلحة المتطورة. التحديث لا يتطلب أيديولوجية سياسية ولا مجموعة من المؤسسات بعينها مثل: الانتخابات، الحدود الوطنية، المؤسسات المدنية».
تلك نظرة خاطفة موجزة لثلاثة آراء حول الطريقة الأنجع للانتقال إلى الحداثة، فأيها نختار؟.
يرفض كثيرون منا النموذج الكمالي، ودليلهم فشل «أتاتورك» في تغريب تركيا وتحديثها بآن واحد. فشلٌ انتقل بالامبراطورية العثمانية إلى «دولة ممزقة» رفضت هويتها ورفضها الغرب في اتحاده قائلاً بوضوح «هذا نادٍ مسيحي»، ويرفض آخرون أي نداء للأصولية فهو يعني عودة للدين والذي وفق رأيهم «أفيون الشعوب».
نقاشنا حول الهوية اليوم هام وذو أولوية، ولكن دعونا نحاول أن نسمع بعضنا. عندما نقول إن الكمالي كافر بالضرورة، فنحن نجعل سماع رأيه خطيئة، وعندما نسخر من دعاة الأصولية أو الإصلاحية معتبرين أننا نمتلك الحقيقة، فإننا نختلف مع حقائق التاريخ وعلوم السياسية، فكما يقول المهاتما غاندي: «من يقول أن الدين مستقل عن السياسة، لا يعرف الدين ولا السياسة».
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :