فيكتوريوس بيان شمس
دفع السوريون كغيرهم من العرب، ومنذ ثورة فلسطين عام 1936، الكثير في سبيل تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني، الذي أصبح من نافل القول إنّه احتلال إحلالي ذو سمات عنصرية عرقية، تشبه إلى حد بعيد نظام «الأبارتهايد» وقبله النازية في ممارساته ضد أصحاب الأرض الأصليين.
كانت انعكاسات هذا الاحتلال كارثية، بحيث شُرِّد الشعب الفلسطيني إلى دول الشتات في مأساة لا تشبه إلا مأساة الشعب السوري منذ القيام على نظامه في العام 2011. هذه المأساة التي شُرِّد على خلفيتها نصف الشعب السوري، واستشهد من أبنائه حوالي 300 ألف، ومثلهم معتقلون، عدا عن الكم الهائل من الجرحى والمفقودين. أي إن سوريا التي كانت قبل العام 2011 قد لا تعود أبدًا. كان من نتائج ضرب البنية الاجتماعية السورية مصادرة قرارها السياسي، إن من جهة النظام، أو من جهة «المعارضة»، أو قل «المعارضات» على اختلاف أيديولوجياتها وارتباطاتها وولاءاتها.
كان النظام الذي استمد «شرعيته الوطنية» من مأساة الفلسطينيين، قد دمّر سوريا في ترجمة حرفية للشعارات التي رفعها منذ بدء الحراك: «الأسد أو نحرق البلد»، «الأسد أو لا أحد».
في ظل هذا الوضع الذي انزلق بالبلد إلى مهاوي الحرب الأهلية، وبتعبير جلي لاستغلال اللحظة، برز صوت «المعارض» كمال اللبواني، ليطرح قبل أسابيع مبادرته للسلام مع «إسرائيل» مبرّرًا ذلك في حديثه لموقع «إيلاف» في 14 نيسان 2014 أثناء تعليله أسباب حديثه للإعلام الإسرائيلي: «إذا كنت من معادي إسرائيل وليس اليهود فيمكنني إقناعك بأن السلام أخطر وجوديًا على الصهيونية من الحرب». بهذه البساطة يحاول هذا «المعارض» إقناع الناس بأن «إسرائيل» لا تعرف هذا اللغز، وهي ماضية للوقوع في فخّه، إذ توقّع معه اتفاقية سلام؛ فتفني نفسها بنفسها. و «الدكتور المعارض» الذي كان يُنظّر منذ فترة لضرورة دعم «جبهة النصرة» وبقية التنظيمات الأصولية الإسلامية في مواجهة الآلة القمعية للنظام وحلفائه من ذوي اللون الطائفي الواحد، والذي اعتبر أن «الجولان يمكن أن يتحوّل إلى منطقة صناعية وسياحية مشتركة. منتزه سلام دولي، من دون أن تكون هناك حاجة لإخلاء الإسرائيليين». لم يتحدّث في مبادرته عمّا ستؤول إليه أحوال الفلسطينيين الذي هُجّروا للمرة الثانية عندما ارتبط مصيرهم بمصير أشقائهم السوريين. ففي مطلع هذا العام، استطاعت «إسرائيل» فرض ما يسمّى قضية «اللاجئين اليهود» على وزير الخارجية الأمريكي جون كيري والذي يعمل على استكمال ملفات التسوية بين الفلسطينيين و «الإسرائيليين». هذا الملف الذي يعتبر أن على الدول العربية أن تعوّض الفلسطينيين وتوطّنهم، مقابل تعويض «إسرائيل» لليهود الذين طُردوا من البلاد العربية.
هكذا تتبدّد الدهشة والغرابة عن تصريحات اللبواني «لإيلاف».
المفارقة هنا، أن فريد الغادري رئيس ما يُسمّى «حزب الإصلاح السوري»، والذي زار «إسرائيل» في حزيران 2007، والذي صرّح «ليديعوت أحرونوت» أنّه يزور «إسرائيل» منذ العام 1996. صرّح أيضًا لذات الموقع (إيلاف)، بعد انطلاق الثورة السورية بأقل من شهرين: «أنا كسوري لدي قضية سورية ولست فلسطينيًا لكي أُحارب لفلسطين». على شاكلة هذا التصريح استنتج الغادري بأن «إسرائيل أرجعت سيناء لمصر لأنه أتاها إنسان عاقل وقال لها لا عنف بعد الآن ونحن نريد الشيء ذاته». وعندما سئل ما إذا كان سيقبل الشعب السوري بهذا السيناريو، أجاب: «عندما يفهم الشعب السوري الأطروحات سيقبل». هكذا ببساطة، سينسى الشعب السوري تاريخه كلّه بشهدائه وآلامه وأيتامه وأراضيه وأشقائه الفلسطينيين واللبنانيين؛ شريطة فهمه لهذه «الأطروحات». ولم يتوانَ وقتها بأن يتحدّث باسم الشعب السوري الذي لم يعرفه؛ إلا بسبب الصخب الذي أحدثته زيارته لفلسطين المحتلة: «يومًا ما سيرفرف العلم الإسرائيلي في دمشق، لأن الشعب السوري مسالم وطيب ولا يستطيع أن يحمل الكراهية، ولكن فرض بشار الأسد على الشعب السوري أن يكره ويقاتل ويعادي إسرائيل».
جدير بالذكر هنا، أن لا علاقة لبشار الأسد بعداء الشعب السوري «لإسرائيل». لا بل على العكس، فبسبب طبيعته التسوَوية، جهد النظام السوري ومنذ أواسط تسعينيات القرن الماضي على التفاوض مع «إسرائيل»، أي إن التسوية، هي خيار النظام، وليس الحرب.
قبل اندلاع الثورة السورية بأسابيع قليلة، كان النظام السوري قد أنهى في اسطنبول، وبإشراف ووساطة مباشرة من الإدارة التركية، آخر جولات مفاوضاته السرية مع «إسرائيل»، التي كانت قد بدأت منذ العام 2008، عندما كان النظام السوري يعيد صياغة علاقاته مع تركيا بعد عقود من الجفاء بين النظامين، والتي ما لبثت أن عادت للجفاء بعد الموقف التركي من الثورة، وهذا خير دليل على أن النظام السوري يتعاطى مع الآخرين بحسب موقفهم منه، لا من فلسطين، أو الجولان أو غيرها كما يدّعي ليل نهار، لأن علاقاته مع تركيا كانت قد أعيدت أصلًا بعد تناسي النظام للأراضي السورية التي احتلتها تركيا في العام 1938. لا بل أبعد من ذلك، وأكثر حدّة، ما صرّح به رجل الأعمال النافذ، ابن خال بشار الأسد، رامي مخلوف في 11/5/2011 (أي بعد ستة أيام على تصريحات فريد الغادري) عندما قال: «أمن إسرائيل من أمن سوريا». في دلالة واضحة لطبيعة العلاقة بين النظام والعدو. والغريب هنا أيضًا، أن النظام السوري برّر تصريح رامي مخلوف باعتباره «رأيًا فرديًا يعبّر عن صاحبه»، لكأن حرية الرأي والتعبير متاحة للمواطنين في ظل أنظمة من هذا النوع. ثم ماذا لو صرّح معارض ما بمثل هذا التصريح؟ هل كان سيُدرج تصريحه في باب «حرية الرأي والتعبير» التي يتمتّع بها ابن خال رئيس الجمهورية؟
بعد كل هذا، تبدو الإطاحة بالتركيبة السياسية السورية الحالية (نظامًا ومعارضةً) من خلال الحرب الدائرة في سوريا، واحدة من ضروريات الحفاظ على موقف سليم صحيح، يحافظ على حقوق ومصالح الشعبين السوري والفلسطيني.