تقترب التحوّلات الإقليمية لإعادة تشكيل المشرق العربي من منعطفات حاسمة، متزامنة مع بوصلة دولية ضائعة بفعل حال اللاصراع واللاتوافق بين الولايات المتحدة وروسيا، ما يجعل قراءة المشهد وتوجهّاته وخرائطه غاية في الصعوبة. ثمة نهايات بدأت ترتسم من دون أن تتضح، أوّلها نهاية السيطرة التي كان تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) فرضها على أجزاء من العراق وسورية، والثانية نهاية جغرافيتَي هذين البلدَين ووحدة أراضيهما كما عُرفت قبل مئة عام، والثالثة نهاية المفهوم العربي السائد منذ منتصف القرن الماضي للقضية الفلسطينية ولحلّها العادل. لكن يبدو أن ثمة بدايةً واحدة تحتكرها القضية الكردية بكونها مرشحة للخروج من الصراعَين الداخليَين/ الإقليميَين، السوري والعراقي، بما يحقق أخيراً حلم الأكراد التاريخي بأن تكون لهم «دولة» بل أكثر من «دولة» في ظل المتغيّرات الطارئة دولياً.
منطقياً، سيتيح استفتاء كرد العراق على تقرير المصير لحكومة الإقليم ورقة تستطيع إخراجها من جعبتها في أي وقت لإعلان الاستقلال/ الانفصال. ومجرد إجراء الاستفتاء، على رغم المواقف الدولية المعترضة والمحذّرة، سيعني أن وحدة العراق شعباً وأرضاً ودولة لن تكون ممكنة وسط تصدّع العلاقة بين المحافظات السنّية وحكومة بغداد والمحافظات الأخرى الواقعة تحت الهيمنة الشيعية – الإيرانية. إهمال المصالحة الوطنية ودخول «داعش» على الخط أدّيا الى إثقال المصالحة بحمولات غير متوقعة، وساهم التعسكر الشيعي خارج إطار الدولة ووفقاً لثقافة الاستقواء الـ «حرس ثورية» في تهميش هذه الدولة، فما عادت قادرة على إقناع مكوّنات المجتمع بأنها الكيان القادر على جمعها في صيغة تعايشية.
لذلك مسّت الحاجة الآن، ولو متأخّرة، إلى استعادة البُعد العربي للعراق، فلا السعودية ولا سواها من العرب يمكن أن يكون لديهم مشروع لإضعاف الدولة والجيش لمصلحة ميليشيا أو ميليشيات خاصة بها. لكن مجرد الانفتاح على العرب لا يحقّق توازناً وشيكاً مع إيران، بل ربما تكون إيران نفسها في حاجة إلى العرب في العراق بعدما ضلعت في استدراج الدمار لكبرى المدن والبلدات. من المهم الآن أن يستعيد الشيعة العرب كلمتهم ومكانتهم في العراق، والأهم أن يكون هناك وعي عراقي شامل بضرورة تصحيح أخطاء الحقبة الإيرانية التي لا تزال قائمة، ومن أخطر نتائجها فشل الدولة واستعصاء المصالحة، وأخيراً حسم الأكراد قرارهم بالانفصال. فإذا كان للمشروع الإيراني أن يبقى على حاله، وأن يستمرّ التعايش الأميركي معه، فإنه لا يرمي إلى أقل من إخضاع الشيعة والسنّة والأكراد معاً، مع فارق أن الأكراد باتوا يملكون إمكان رفض هذا المصير بفضل الرعاية الدولية لقضيتهم.
لا شك في أن النموذجين الكرديين العراقي والسوري يوفران مثالاً لأكراد تركيا وإيران، ولم يكن في السياسات الأميركية والروسية والأوروبية ما ينفي ذلك أو يستبعده إذ إنها تشجّع نشوء الأمر الواقع وتتظاهر بعدم الاعتراف به فيما هي تغذّيه وتدعم تكريسه. أما المواقف الحالية التي ترفض الاستفتاء في إقليم كردستان أو تدعو إلى تأجيله فهي إما هاجسة فقط بالحرب على «داعش» والخشية من الانعكاسات السلبية على نهاياتها، وإما تمويهية لأن «التوقيت الخاطئ» الذي دُمغ به موعد الاستفتاء قد يكون أربك الدول الكبرى المعنية بتعديل خرائط المنطقة بكشفه استحقاقات مقبلة لم يحن وقتها بعد. فـ «الدولة الكردية» وُضعت على جدول الأعمال منذ إسقاط نظام صدّام حسين وحلّ الجيش ومؤسسات الدولة، كذلك منذ طرح مشروع «الشرق الأوسط الجديد» واعتماد نهج «الفوضى الخلّاقة» أميركياً. وعليه فإن إقامة هذه «الدولة»، واستخلاصها من ركام الدولتَين العراقية والسورية، لا يعني أقلّ من أن جغرافية تركيا وإيران ستكون عاجلاً أو آجلاً تحت المجهر، فمناطق وجود الأكراد، المتّصلة أو شبه المتّصلة، باتت مناطق «اختراق» خارجي.
كانت معاهدات ما بعد الحرب العالمية الأولى لحظت وضع المناطق الكردية، الموزّعة بين الدول الأربع، تحت الوصاية الدولية ريثما يُنظر في ترتيبات جعلها دولة. وكما برزت آنذاك صعوبات رسم حدود هذه الدولة واعتماد مرجعية سياسية لها فإن الصعوبات ذاتها ترجّح الآن احتمال ظهور أكثر من دولة بسبب التنافر بين الأطراف الكردية نفسها. معلوم أن تركيا جمال أتاتورك كانت أطاحت بالقوة مشروع الوصاية الدولية وفرضت تعديل المعاهدات، كما أن إيران رفضته، فيما رجّحت بريطانيا آنذاك تثبيت مناطق الأكراد في إطار الدولتَين الناشئتَين في العراق وسورية لقاء منحها حكماً ذاتياً. في ما بعد تكرّس الاختلاف في طبيعة الدولتَين العراقية والسورية عنها في تركيا وإيران، لذلك يُنظر بترقّب إلى ردود فعلهما على الاستحقاق الكردي الداهم. إذ أثارت زيارة رئيس الأركان الإيراني محمد باقري أنقرة وتصريحات رجب طيب أردوغان احتمال وقوع حرب هدفها إجهاض المشروع الكردي، فإشارة الرئيس التركي إلى «عملية مشتركة» تعني أن الدولتَين لن تعتمدا فقط على «حرب بالوكالة». لا أحد يتصوّر واقعياً حرباً كهذه إلا إذا تخلّت الولايات المتحدة عن دعمها الأكراد وأقلعت روسيا عن اللعب، أو إذا انضمّت تركيا إلى إستراتيجية المواجهة المفتوحة التي تمارسها إيران ضد الولايات المتحدة.
لم تبدُ التغييرات متاحة أو ممكنة في العراق وسورية إلا بسبب الحروب التي مزّقتهما وكان لإيران فيهما دورٌ تخريبي مؤجّج، كما كانت لتركيا أدوار ملتبسة، لكن مساهمتهما لم تعفهما من نتائج باتت مقلقة تحديداً بسبب المسألة الكردية. وبديهيّ أنهما لا تريدان انتظار اشتعال النار في داخلهما على نحو يصعب احتواؤه، لذا فهما ستسعيان بأي طريقة إلى إخمادها في مهدها الخارجي. لكن أنقرة لا تشعر بارتياح إلى موقف حليفها الأميركي المزمن حتى أنها لم تتمكّن من انتزاع مجرّد ضمان أو تعهّد منه، ولا طهران مطمئنة إلى نيات حليفها الروسي الراهن. والواقع أن ما ظهر من الإستراتيجيتين الأميركية والروسية في سورية أكد على الدوام حرصاً على دور الأكراد وحماية لهم واعتماداً عليهم، وقد يُفسَّر ذلك بأن الأميركيين وجدوا عند الأكراد استعداداً قتالياً مناسباً لمحاربة «داعش» ما لم يتوافر لهم لدى فصائل المعارضة السورية، أما التقارب الروسي مع الأكراد فيمكن فهمه بحرص موسكو على حيازة ورقة يمكن استخدامها في سياق الترتيبات السياسية والأمنية المقبلة للمنطقة.
في فترات سابقة كان هناك توافق بين الدول الأربع (تركيا والعراق وإيران وسورية) على رفض مطلقٍ لإقامة أي دولة أو كيانٍ للأكراد، أما الآن فأصبحت هذه الدول في مواجهة واقعية وتماسٍ مباشر مع ما كانت تستبعده. لكن اللافت حالياً أن النظام السوري هو أقل الأصوات المسموعة في إبداء ذلك الرفض وقد يكون السكوت تعبيراً عن قبول ما يُطرح في الشأن الكردي أو لأن الضرورات الميدانية توجب عدم استعداء الفرع السوري لـ «حزب العمال الكردستاني» (بي كي كي) واستمرار التعاون معه. ذاك أن نظام بشار الأسد الذي يتهيأ لولايته التالية، الجديدة، لا يعارض التحوّلات الإقليمية الجارية طالما أنها تقبله بسجله الإجرامي بل تقبله خصوصاً لكونه غير معني بسورية ومصيرها، إلا أنه مع ذلك يطمح إلى أن يكون نقطة تقاطع روسية – أميركية، بعدما استطاع أن يجتاز أزمته كنقطة تقاطع أميركية – إسرائيلية – روسية – إيرانية. هل يفترق الأسد عن إيران (المتقاربة مع تركيا) في هذا المنعطف ما دام أكراده يلعبون اللعبة الدولية مثله ليفوزوا بحلمهم كما يوشك هو أن يفوز ببقائه؟ هناك من يعتقد أن الأسد يخادع وقد ينقلب في اللحظة المناسبة ضد الأكراد ومشروعهم لكن روسيا وليس هو مَن يحدّد دوره. الاحتمال الآخر أن يُوظَّف الأسد ونظامه وأكراده للانخراط في اختراق تركيا من خاصرتها الكردية.