سوريا المتعددة تواجه سوريا المتجانسة
إبراهيم العلوش
لم يكن بشار الأسد هو أول من ينشد قيام سوريا متجانسة وفق مكاييله الفاشية، فحافظ الأسد أيضًا خلال الثمانينيات كان ينشد بناء سوريا متجانسة، وداعش لاحقًا، كانت تحاول أن تبني في سوريا مجتمعًا متجانسًا وفق معاييرها الوحشية. لكن الفرق بين الثلاثة هو أن بشار الأسد كان الأكثر تدميرًا، وتهجيرًا، وتمكن من تسجيل اسمه كرمز للوحشية، ولم تعد ذكرى حافظ الأسد إلا ذكرى فلكلورية مؤسّسة لهذا الخراب، وما داعش بالنسبة له إلا إرهابًا عابرًا، ومتطايرًا، يتسم بالمراهقة والعبث.
إبان مرحلة حافظ الأسد كانت الخطابات البعثية هي التي تتصدر نشدان التجانس الذي تطبخه المخابرات في أقبيتها المظلمة، وكانت خطابات حافظ الأسد في زمن أحداث الثمانينيات بداية صعود اسم الأسد كطاغية طائفي، ينشد بناء سوريا على مقاييسه التي بناها بعد انتصاره الساحق في الثمانينيات، وتغييبه لعشرات آلاف المعتقلين، واغتصاب بقايا الحرية، ليؤسس بالاشتراك مع أخيه رفعت نهجًا داعشيًا باستباحة كل ما ليس له ولشبيحته، اعتبارًا من مذابح سجن تدمر، واعتداء المظليين على النساء بدمشق، واجبارهن على نزع حجاباتهن، وانتهاكهم لمؤسسات التعليم ودوائر الدولة واستباحتها، وليس انتهاءً بمحاولة إجبار تجار شارع الصالحية بدمشق على بيعه محلاتهم، وفق عقود هو من كتبها، وهو من قرر أسعار المحلات، وهذا ما لم يحدث منذ عصر قراقوش أو تيمورلنك كما ذكر تجار دمشق.
اعتبارًا من الثمانينيات تضخمت أجهزة المخابرات، وبنت لنفسها مفاهيم وأهدافًا خاصة بها، ولعلها وضعت وبلورت في تلك الفترة مفهوم سوريا المتجانسة الذي قام بشار الأسد بتنفيذه بوحشية منقطعة النظير، بمعونة إيرانية تستمد تاريخ العداء الفارسي مع العرب واحتقارهم، وتستعمل الطرق الفاشية لنظام ولاية الفقيه، وتضيفها الى التعاون الروسي الذي كان له دور كبير في الثمانينيات على صعيد بناء مؤسسات التعذيب، ومصادرة القرار السياسي الداخلي، التي كان الاتحاد السوفياتي “الصديق” رائدًا بها آنذاك، وأخذت منحى جديدًا على يد بوتين الذي لم يتورع عن التصريح بأن سوريا أرضًا وشعبًا مجرد حقل رماية وتجارب لأسلحة روسيا وجيشها “العظيم”.
أجبر هذا النظام بنى اجتماعية وسكانية وطائفية على التراص خلفه، والتصفيق لمذابحه داخل طيف كبير من الاتساع، لقد جمع في بوتقة واحدة علي دوبا وأدونيس والنمر ونزيه أبو عفش ومهدي دخل الله ورغدة وبثينة شعبان وعلي مملوك مع جوقة قاسم سليماني المتمثلة بالميليشيات الطائفية العراقية، بالإضافة إلى ميليشيا حزب الله التي ضربت مثلًا رائدًا في نشدان التجانس مع المشروع الإيراني الأسدي، عندما دمرت البيوت التي استقبلت أنصاره وناسه في حرب 2006، والتي آوتهم من التشرد، ولم تتردد بإطلاق الألقاب الإرهابية عليهم من شتى الأشكال والألوان، لأنهم قد يكونون خطرًا على التجانس الإيراني الأسدي يومًا ما.
على الصعيد الداعشي، فإن داعش كانت واضحة الأهداف في اليوتوبيا الدينية والطائفية التي تريدها، فهي تريد بناء مدينة داعشية تضم الأنصار والمهاجرين المخلصين لقائد التنظيم، أو خليفته، في تسليم مطلق لا يحتمل النقاش ولا السؤال، فكل ما هو مبني مقدس، اعتبارًا من البغدادي الذي يتقدس بلقب الخلافة، انتهاء بالمقاتلين الذين يسمون جند الخلافة، والذين يحق لهم النهب، والسلب، والسبي من الكفار والمرتدين، وكل من هو خارج البيعة الداعشية المتجانسة فهو حتمًا كافر أو مرتد، بمن فيهم أتباع التنظيمات القاعدية كالنصرة وغيرها، مرورًا بالتنظيمات الدينية التي ركبت الموجة لتحليل الحرام، ونهب ما هو متروك خلف الناس الهاربين والمروعين سواء من قبل النظام أو من قبل داعش.
هتلر حاول بناء ألمانيا متجانسة، وقرر خنق اليهود في غرف الغاز، وأطلق الألقاب على الشعوب الأخرى، بمن فيهم العرب، الذين نالوا منه لقب الكلاب، وستالين حاول أن يبني مجتمعًا اشتراكيًا خالصًا وارتكب المجازر، ورحّل شعوبًا كاملة من أوطانها إلى وجهات أخرى، لكن بشار الأسد آثر القتل المباشر، الذي تعاونت عليه كل أنواع أسلحة الجيش الأسدي، والميليشيات الطائفية، لتصل إلى نظرية التجانس العنصرية التي يلهج بها الشبيحة، ويطالبون بالتشدد في تطبيقها، سواء بشعارات زرع المدن بالبطاطا، أو بممارسات التعفيش، أو باستعمال الأسلحة الكيماوية، خاصة وأن أنظمة متمرسة بالفاشية تدعم هذا النظام وهي إيران وكوريا الشمالية وروسيا ومن خلفها الصين، وكل مخلفات اليسار الستاليني المنقرض.
داعش اليوم تنحسر عن البلاد السورية، وتتهاوى بلا أي تعاطف معها، بسبب احتقارها الأيديولوجي للناس، ولوحشيتها في التعامل معهم، إذ لم توفر أحدًا بمن فيهم المتعاطفون الذين تأخروا بالبيعة لها. أما نظام الأسد فيعاود التمدد على الجغرافيا السورية، وفق تفاهمات دولية لمحاربة الإرهاب، تعتبر أن النظام هو إرهابي ضد شعبه فقط، وهذه ميزة ترجح التعامل معه، وإعادة استصلاحه رغم جبل الممارسات الوحشية الذي خلفته محاولاته بالاستمرار بنظريته الفاشية في تجانس الشعب المحكوم من قبل المخابرات.
سوريا المتجانسة والطائفية تحلم بأن تكون مثل كوريا الشمالية التي تعبد نسل قادتها المسلحين بالأكاذيب وبالوحشية، وتصنع أجيالًا محنية الرقاب أمام قادتها، وأمام الحواجز، وفي فروع المخابرات، وفي كل دوائر الدولة المتجانسة.
بينما سوريا الحرة التي قامت ثورة السوريين من أجلها، هي سوريا المتعددة، والمنفتحة، والتي تشق طريقها إلى المستقبل، وتساهم بمحاربة الإرهاب، والتطرف الديني، والقومي، وقد يبدو طريق الوصول إليها شاقًا، ولكن تضحيات نصف مليون شهيد ومليون جريح، كفيلة بجعل الهدف ثابتًا، ولا تراجع عنه مهما تغيرت الظروف.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :