عن ماريا وجيلها

  • 2017/08/27
  • 12:58 ص

طفلة سورية في تدريب بمخيم كاوا شمال العراق (يونيسيف)

عنب بلدي – حنين النقري

بكلمات هامسة، تحاول أم علاء أن تلخّص فكرتها، لكنها تعجز عن ذلك فتلتفت إلى ابنتها المحدّقة بشاشة الهاتف الذكي طيلة الوقت، تطلب منها “ماما اعمليلنا كاستين شاي”، وتسكت منتظرةً إياها لتخرج من الغرفة باتجاه المطبخ، لتقول “صحيح أنها في الرابعة عشرة إلا أنّ روحها وإدراكها وإمكانياتها لم تنضج أبدًا، ماريا بجسد عمره 14 عامًا، لكن من يحادثها يشعر أنها طفلة في الثامنة”.

تعيش ماريا مع أمها وأبيها في تركيا، بعد خروجهم من حمص منذ ثلاثة أعوام “ماريا هي آخر العنقود، الحبة الأخيرة غير الناضجة من عنقود العنب”، تصفها والدتها.

 تؤكد الحكومة المؤقتة أن خمسة ملايين طالب تتراوح أعمارهم بين 15 و16 سنة لا يتلقون تعليمًا مناسبًا وأن ما بين 3.2 و3.5 ملايين طفل لا يتلقون تعليمًا على الإطلاق، فيما تشير الأمم المتحدة إلى أن 2.1 مليون طفل سوري لا يتلقون التعليم.

تعليم متقطع

عندما بدأت الثورة، كانت ماريا في السابعة من عمرها، وتقول أم علاء “بسبب تزامن دخولها إلى المدرسة مع الثورة، كان التعليم الأساسي الذي نالته ماريا متقطعًا، إضرابات ومظاهرات واعتقالات وحواجز، وهكذا لم تتلق أساسًا علميًا جيدًا كباقي إخوتها، وأعتقد أنه أمر مشترك مع جميع أبناء جيلها وأقرانها”.

تشير أم علاء إلى الخوف الذي كانت ماريا تعيش فيه عند كل تصعيد أمني وقصف، فتقول “كانت ترتجف خوفًا، وتكره الخروج من المنزل لأيّ سبب كان، إلى الآن أشعر أنها انطوائية وتحبذ البقاء في المنزل عن الخروج عنه، عندما نذهب لمكان ما تستعجلني بالعودة إلى المنزل طوال الوقت، تأثير فترة التصعيد على حمص عسكريًا كان شديدًا عليها، وازداد الأمر حدة مع خبر اعتقال أخيها الأكبر نهاية عام 2012. للأسف، كان الأخ المقرّب إليها من بين الجميع، وهكذا زادت وحدتها وحدة”.

استشهاد

بعد اعتقاله بعام ونصف، علمت العائلة نبأ مقتل ابنها البكر تحت التعذيب، وهو ما كان له أثره المضاعف على ماريا، تضيف أم علاء “كان وقع الخبر عليّ وعلى والد علاء شديدًا، لكنّ تأثيره على ماريا كان بمنحى آخر، لم يكن هناك بد من إخفاء الخبر عنها، وهو ما قابلته بموجات بكاء ليلًا ونهارًا”.

تشير أم علاء إلى أنه ورغم مرور أعوام على استشهاد علاء، إلا أن ماريا كثيرًا ما تستيقظ لتخبر أمها بأنها رأته في الحلم، تقول “يحدث ذلك بوتيرة شبه يومية أحيانًا، كانت متعلقة به للغاية وماتزال، تسألني أحيانًا عن إمكانية أن يكون حيًا، يتوقع الإنسان أن الطفل ينسى لكنه على ما يبدو يتذكر أكثر منا جميعًا”.

وكان تقرير نشرته منظمة “أنقذوا الأطفال” البريطانية في آذار 2017، قد أشار إلى أن أكثر من 84% من الأطفال السوريين يعانون من الضغط العصبي اليومي جراء القصف بالقنابل والصواريخ، موضحًا أنه، بعد مقابلات أجريت مع 450 طفلًا، تم التوصل إلى أنهم يعانون من درجات عالية من الضغط النفسيّ، تتراوح درجتها بين الانطواء وصعوبات النوم لتصل إلى محاولات الانتحار، حيث خسر أكثر من ثلثي هؤلاء الأطفال أحد أحبتهم أو أصيبوا أو تعرض منزلهم للقصف.

 ويذكر تقرير “أنقذوا الطفولة” أن 48% من الأطفال الواقعين في مناطق القتال فقدوا قدرتهم على النطق أو يواجهون صعوبات متزايدة في النطق منذ بدء الحرب، وأن 81% منهم أصبحوا أكثر عدوانية، فيما يعاني 71% منهم التبول اللاإرادي.

لجوء وعزلة

بعد نبأ مقتل علاء، قررت العائلة الخروج من سوريا، تقول أم علاء “لدي من الأبناء ثلاث بنات وابنان، استشهد علاء رحمه الله، وسافر محمد إلى أوروبا، بناتي أيضًا سافرن مع أزواجهنّ خارج سوريا، وهكذا وجدنا أنفسنا أنا وأبو علاء وحيدين مع هذه الطفلة، في بلد تحت رحمة قاتل ابننا، فقررنا الخروج، سلّمنا منزلنا في حمص لأحد أقاربنا، وتوكلنا على الله”.

لم تكن إقامة العائلة في تركيا مستقرة، بسبب عدم وجود رابط ملزم لهم للإقامة في هذه المدينة أو تلك، تقول الأم “في البداية أقمنا في الريحانية، لكننا بعد الأشهر الستة الأولى قررنا الانتقال إلى اسكندرون، وفيها تنقّلنا بين عدة بيوت في عدة مناطق مختلفة (…) هذه هي طبيعة حياة الشخص اللاجئ والمستأجر، لكنها حياة لا تتيح الحفاظ على جو عائلة واحد، ولا إنشاء علاقات اجتماعية مع الجوار، وهكذا لم تكوّن ماريا صداقات حقيقية مع فتيات في عمرها، وهو أمر أساسيّ لكن لا يمكننا فعل شيء حياله”

يوتيوب

منذ عام تقريبًا، ونتيجة لانتقال العائلة لمنطقة جديدة، وعدم وجود مدرسة سورية قريبة، لم يكن هناك بد من تسجيل ماريا في مدرسة تركية، ووقع الاختيار على مدرسة الأئمة والخطباء، تقول أم علاء “اخترنا هذه المدرسة بسبب وجود مادة اللغة العربية فيها، ما يجعل تواصل ماريا مع أٌقرانها أكثر سهولة بسبب معرفتهم بعض الكلمات العربية، لكن ذلك لا يعني عدم مواجهتها لصعوبات كثيرة في الفصل الأول”.

مع كل صعوبة كانت تواجه ماريا، كانت تنفر من الدراسة بشكل أكبر، وتفقد رغبتها بالتواصل مع الآخرين، تشرح والدتها “صارت تتهرب من الحديث مع إخوتها عبر الإنترنت، رغم أنها تحبهم كثيرًا، وصارت تمضي معظم وقتها ممسكة الهاتف الذكي، والسماعات في أذنيها، متنقلة من مسلسل لآخر على موقع اليوتيوب، مهملة دراستها التي تحتاج لجهد أكبر، للأسف لا يوجد من يساعدها في المناهج التركية في المنزل، تحسّن الوضع قليلًا في الفصل الدراسي الثاني مع تأقلمها بشكل أكبر مع الجو الجديد، لكنها ماتزال انطوائية، غير منطلقة، تخاف أن تخطو خطوة واحدة بدوني وتتصرف بشكل أصغر من عمرها الحقيقيّ”.

لا نستطيع تقديم الكثير

“أشعر بالتقصير تجاه الظروف التي تعيش فيها ماريا، لم نقدم لها الكثير، ولا نستطيع تغيير ذلك حاليًا”، بهذه العبارة تعبّر أم علاء عن شعورها بالمسؤولية تجاه ابنتها، مشيرةً إلى أن الظروف المعيشية التي شبّ بها بقية أبنائها مختلفة تمامًا عما تستطيع العائلة تأمينه لماريا.

وتوضح الأم “كانت ظروفنا الماديّة أفضل، طبيعة الحياة كلها مختلفة، الأساسيات التي كنا نقدمها لأبنائنا صارت اليوم رفاهية لا يفي دخلنا بها، إذ نعيش على مدّخراتنا، ومساعدات من ابني وبناتي يرسلونها من فترة لأخرى، عندما كان إخوتها أطفالًا، كنا نذهب كل عامين للاصطياف على ساحل البحر، طقوس العيد وملابسه وحلوياته وعيدياته وضيوفه كلها اندثرت اليوم، الألعاب والكتب والمجلات العربية الموجودة في المنزل، والسرير الخاص لكل واحد أيضًا لم تعد متوفرة، مثلًا حاليًا نقيم في منزل من غرفتين، غرفة لي ولأبو علاء، وغرفة ثانية للجلوس والضيوف تنام فيها ماريا وتدرس، هذه هي إمكانياتنا المادية الحالية، لا نستطيع تقديم أفضل من ذلك، الحرب غيّرت كل شيء”.

ماريا

بهدوء شديد وابتسامة خجولة تقدم ماريا الشاي، تجيب على الأسئلة باقتضاب وجمل قصيرة، “الحمد لله، دراستي منيحة”، “الحمد لله، عم تتحسن لغتي التركية”، تضع السماعات على أذنيها، لتعود من جديد إلى هاتفها ومسلسلاتها، وعالمها الخاص.

مقالات متعلقة

مجتمع

المزيد من مجتمع