نسجت الحضارات الشرقية منذ القدم الأساطير التي تدعم الرؤية الكونية حول القوة الغيبية التي سمتها بالقدر.
وكثيرًا ما كانت الحضارات توقف تاريخ المباني العمرانية المميزة من خلال إحدى هذه الأساطير، حتى تعطي الحجارة معنىً إضافيًا.
وبالرغم من ضياع الكثير من الأحداث والتواريخ المهمة حول معمار معين، إلا أن حاجة البشر لاكتشاف الغيب والمجهول، وسعيهم إلى إقامة علاقة مستقرة معه، دفعتهم إلى الاحتفاظ بهذه الأساطير.
بالقرب من حي “أسكودار” في اسطنبول، وفي عرض مضيق اسطنبول، تبرز جزيرة صخرية صغيرة جدًا، يرتفع عليها أصغر أبراج المدينة، برج الفتاة.
تبدأ حيرة الإنسان في عصرنا هذا مع نظرته الأولى للجزيرة، إذ لا يوجد تأكيد تاريخي إذا ما كانت هذه الجزيرة من صنع البشر، أم أنها وُجدت بين المياه بشكل طبيعي.
لكن الشيء الوحيد الذي وصلنا هو أسطورتان متناقضتان، تحاولان تفسير سبب وجود الجزيرة وبرجها.
حين يحكم القدر قبضته
يحكى أن ملكًا قديمًا عاش في هذه الأراضي التي بات اسمها اليوم اسطنبول، بعدما كانت تحمل اسم القسطنطينية عاصمة بيزنطة، ومحط أطماع شتى الإمبراطوريات عبر التاريخ.
وكان لهذا الملك الذي نجهل كل شيء عنه تقريبًا، بنتًا صغيرة أولع بحبها، لكن منامًا غريبًا فسّره العرّافون كرؤية سيجعل قلبه يرتعد من الرعب.
إذ يكشف المنام ما يُخَبِئه القدر لابنته الصغيرة، فما إن تبلغ من العمر 18 عامًا ستلدغها أفعى وترديها قتيلة، قبل أن ترى من الحياة شيئًا.
فما كان للملك حيلة لإبعاد ابنته عن اليابسة سوى ردم جزء من مياه مضيق البوسفور، وتُشير التقديرات إلى أنه فعل ذلك في القرن الثالث قبل الميلاد، ليبني برجًا تسكنه الفتاة بأمان من الموت.
وما هي إلا فترة صغيرة من الوقت حتى أصيبت الفتاة بمرض أعيى الأطباء، فاقترح بعضهم أن العنب هو دواؤها الوحيد.
وحين حضر الدواء في سلة مزينة، كان يُخبّأ حكم القدر بين حبات العنب، حين ظهرت أفعى بشكل مفاجئ ولدغت الفتاة لتموت من حينها.
وهكذا سُمي مكان إقامتها ببرج الفتاة، لترتبط عبرة القدر بالبناء إلى الأبد.
حيث لفظ العشّاق آخر أنفاسهم
الأسطورة الثانية ترتبط بشكل أو بآخر مع ما آل إليه البرج اليوم كملتقى للعشاق، بعد أن فُتح للعامة.
إذ يُحكى أن هذه الجزيرة كان خلوة للرهبان المنقطعين للعبادة، وكان بين هؤلاء الرهبان فتاة تدعى “هيرو”، وهبت حياتها للتعبد.
لكنها ربما لم تتوقع أبدًا أن جولة لها خارج الجزيرة ستجعلها تقع في غرام شاب يدعى “لينادور”، الذي بادلها حبًا دفع حياته ثمنًا له.
لم يكن من الوارد في ذلك العصر الذي نجهله أن تقطع “هيرو” بعهودها للإله الذي تعبده، لذا كان حبها سريًا، بأوقات قصيرة وسريعة تختلسها من أعين الرهبان، حين كان يصلها حبيبها سابحًا من شاطئ المدينة إليها.
إلا أن يومًا عاصفًا كالذي تشهده اسطنبول دومًا سيدفعه بعيدًا عن الجزيرة، ليلقى حتفه وهو يسعى لرؤية حبيبته.
لم تحتمل “هيرو” ما حصل، فانتحرت لتخلد اسم الجزيرة في تاريخ الحب.
ومازال الناس يتداولون هذه الأساطير مع تغير شكل البرج عشرات المرات، من محطة للسفن في عهد الدولة البيزنطية، إلى برج مراقبة حربي، ثم مكتبة، وفي عهد الجمهورية أصبح حجرًا صحيًا، ولاحقًا محطة إذاعية، إلى أن تحول إلى مكان سياحي عام 2000.