تعالوا لا نسخر من بشار!
يمكن القول بأن خطاب بشار الأسد، أمام مؤتمر لوزارة خارجيته، أتى هذه المرة في توقيته المثالي؛ بعد يومين من اعتداءات إرهابية لداعش في إسبانيا وألمانيا وفنلندا، وقبل حلول ذكرى استخدام قواته السلاح الكيماوي على نطاق واسع في غوطة دمشق صبيحة 21 آب 2013. قد يكون التوقيت محض مصادفة، لكن إلباسه دلالة لن يكون تجنياً على تنظيم الأسد. إذ ليس أفضل من عشية ذكرى استخدام السلاح الكيماوي ليظهر بشار مرتاحاً إلى وضعه وإلى إفلاته من العقاب، وليس أفضل من الظهور بعد الهجمات الإرهابية في أوروبا ليعلن رفضه وجود أي تنسيق أمني مع الغرب ما لم يقطع الأخير كافة علاقاته مع “الإرهاب” وفق تعريف بشار الذي يصنّف كل المعارضة تحته.
صحيح أن بشار حاول إظهار الواقعية بالقول: “هم فشلوا حتى هذه اللحظة ونحن لم ننتصر”. إلا أنه ذهب أبعد من إعلان الانتصار المؤقت إلى نقطة المقايضة الكبرى، وهي المسألة التي روّجت لها مؤخراً دوائر في صنع القرار الغربي، على نحو ما فعل الرئيس الفرنسي ماكرون الذي اعتبره خطراً على السوريين فقط بينما خطر داعش على العالم كله. فالنظام المخابراتي السوري تعيّش طويلاً على التعاون مع أجهزة المخابرات الغربية في موضوع الإسلاميين تحديداً، حتى من خلال معرفة تلك الأجهزة بالدور المزدوج للمخابرات السورية بعد إسقاط صدام مثلاً. يُذكر أن المخابرات الأميركية قد طالبت الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش بتخفيف الضغوط على تنظيم الأسد بسبب التعاون الأمني بين الطرفين، وسرّبت حينها رقماً يفوق العشرين ألف ملف لإسلاميين سُلّمت ل”السي آي إي” من قبل المخابرات السورية.
إذاً، بموجب المقايضة المطروحة، على الغرب الإقرار بأن تنظيم الأسد باقٍ برعاية ووصاية إيرانية-روسية. وبما أن الحرب على داعش تقترب من نهايتها، ويقترب معها موسم عودة آلاف الداعشيين إلى بلدانهم، أو إلى ساحات “جهاد” جديدة قد لا تكون الاعتداءات الأخيرة سوى مقدمة “لطيفة” لها، فسيتحتم على الغرب التعاون مع مخابرات بشار، أي تلك المخابرات التي يدرك أنه لها ولحلفائها الإقليميين دوراً إن لم يكن في صناعة التنظيم فبمساعدته على الاستقواء والتمدد. والحق أنها صفقة تستهوي غالبية الدوائر الأمنية في الغرب، على الأخص تلك الدوائر التي لا ترى مانعاً في اصطناع الجهاديين، ممن لديهم استعداد لذلك، ومن ثم إبادتهم في حلقة لا تبدو لها نهاية وشيكة.
ليست مهمة في المقابل ثرثرة بشار وانتقاداته النظام الغربي، فهي في معظمها تعود إلى الفولكلور اللفظي الأسدي المعادي للديموقراطية والمترسخ منذ مرحلة الأب. إلا أنه هذه المرة، وهو يستشهد بما يسميه “النظام الأميركي” وعدم قدرة ترامب على فرض ما يريد، يغازل عموم موجة اليمين الشعبوي الغربي، الموجة الناقمة أيضاً على النظام الغربي الحالي، والتي تحتقره في أدنى تقدير. إلى ذلك يُضاف حديث بشار عن خسارة شباب من قواته والبنية التحتية مقابل كسب مجتمع أكثر صحة وتجانساً، فهذا التجانس يكاد يكون الحلم المتعذّر لليمين الشعبوي في الغرب، وبإبادته ما يُقارب مليون سوري بحسب بعض التقديرات يكون بشار هو القائد الملهم لذلك اليمين العاجز، ولن يكون من باب المصادفة مؤخراً أن تُرى صورته على حساب التواصل الاجتماعي لأحد المتورطين في اعتداءات عنصرية في الولايات المتحدة.
والحق أن حديث بشار عن التجانس، ما يذكّر بأسوأ ما شهدته البشرية من عنصرية وادعاءات نقاء، ليس وليد اللحظة. هذه هي قناعاته التي أسفر عنها إبادةً جماعية وتهجيراً منذ بدء الثورة، أما قبل ذلك فلعل معارضين سوريين يتذكرون كيف خرج بعد انقضاض مخابراته على ما سُمّي بربيع دمشق، ليسخر منها بالقول: إن البعض قد فهمه خطاً عندما تحدث عن الرأي الآخر، فظنّ أنه المعني بالرأي الآخر. بينما كان على الأرجح يقصد بعض التباينات البسيطة في تنظيمه، أو ربما بعض التباينات في عائلة الأسد فحسب. ومن باب التذكر أيضاً وصفه إثر حرب تموز القادة العرب بأنصاف الرجال، ليصل في خطابه الأخير إلى وصف العرب بألا وجود لهم إطلاقاً، فهم مجرد عملاء وأدوات للغرب على شاكلة اتهامه المعارضة السورية.
غير أن هذا لا يعني التبرؤ التام من العروبة، فهو قد احتاج الأخيرة ليقول إنها جوهر الهوية السورية، فقط كرسالة غير مباشرة للأكراد السوريين ورغبتهم اعتماد تسمية “الجمهورية السورية” بدل “الجمهورية العربية السورية”.
بالتأكيد سنجد في خطاب بشار ما يصلح للسخرية، كمثال اتهامه الغرب “بانعدام الثقة، ما يدفعه إلى استخدام القوة، وعدم العقلانية، ورفض مشاركة الآخرين”. وكأنه هو شخصياً يتمتع بكل ما ينقص الغرب، من عدم اللجوء إلى الوحشية المفرطة، ومن التحلي بالعقلانية والرغبة بمشاركة الآخرين! لولا أنه يسخر من العالم جميعاً بإصراره على ما هو عليه دون أدنى تغيير، وبقبول العالم ببقائه كما هو، بل إنه فعلياً يغلق أمام الجميع أي مدخل لإعادة تدوير تنظيمه، ويزيد عن ذلك بالحديث عما يسميه “تلوث المعارضة لدرجة لا يمكن معها إعادة التدوير”.
نعم، قد نسخر من الكثير مما ورد ي فقرات الخطاب، على رغم أنه الخطاب الأكثر تماسكاً له. إنما قبل ذلك لا بد من ملاحظة بعض ما ردده، من قبيل “الثورة هي مصطلحنا.. أنتم وطنياً وأخلاقياً لستم أكثر من حثالة”، وبالطبع اتهامه المعارضين بأنهم عملاء وعبيد. فالحق أن بشار كرر ما دأب عليه طوال سنوات أناس يعتبرون أنفسهم هم الثورة، والآخرين مجرد عملاء ومرتزقة، وأن هؤلاء العملاء المرتزقة سرقوا الثورة منهم. اليوم، مع هذا التطابق، قد يتساءل الواحد منا عن الجهة الأحقّ بأن يُنسب إليها هذا الخطاب؟ أم أنه فقط من مقتضيات “التجانس” بين الطرفين؟
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :