بالقرب من دجلة والفرات.. حيث ظهر مصطلح الحرية لأول مرة
قبل قرابة أربعة قرون ونصف، عاش الإنسان في أول حضارة عرفتها البشرية، حياة ظلم وجور بالقرب من نهري دجلة والفرات جنوب العراق، وهم من سيذكرهم التاريخ باسم “السومريين”.
الحاكم الذي يدعى “لوغال أندا”، أقام تحالفًا اقتصاديًا مع الأثرياء وأطلق يدهم في مملكته التي تدعى لكش، ووسع صلاحيات رجال الدولة الفاسدين، فضلًا عن امتيازات اقتصادية تمتع بها كهنة المعبد الذين أوصلوه للحكم عام 2360 قبل الميلاد.
كل شيء، كل نفس، كان يأخذه السومريون الفقراء، كانوا يدفعون ثمنه غاليًا، من مصادرة أملاكهم سدادًا للديون التي ترتبت عليهم بسبب الضرائب، إلى تكاليف دفن الموتى.
عاش السومريون ست سنوات كعبيد بموجب عقود الديون، التي استخدمت لوضع الناس في خدمة الملك، فلا يعود إلى حياته حتى يسدّ ما عليه من ديون.
لكن الأمل لا يزال قائمًا، ويلوح في الأفق بيدي قائد اسمه “أوروكاجينا”، الذي سيتولى مهمة الإطاحة بالسلطة الجائرة، وكان انقلابه بحد ذاته أمرًا مثيرًا للدهشة، إذ أبقى على ابن الحاكم الساقط على قيد الحياة.
في تلك الفترة لم يكن متعارفًا على انقلابات لا تُسفك بها دماء العائلة المالكة كلها، خشية من ثورة على يد أحد الورثة.
لكن الرجل الذي وصل إلى الحكم بانقلاب، سيذكره التاريخ كأول مصلح اجتماعي في الشرق القديم.
أحدث “أوروكاجينا” ثورةً في مجال التشريع، وانحاز لصالح الفقراء، مانعًا رجال الدولة وكهنة المعبد من السيطرة على أملاك الناس.
أقال الحاكم الجديد رجال الدولة الفاسدين، والكهنة المرتشين الذين يتمتعون بنفوذ قوي، وألحق بهم كثيرًا من موظفي المحاكم، وجُباة الضرائب.
لم يهدأ الملك الجديد، بل أعلن العفو العام عن ديون العبودية لمواطني كلش، وحدد تكاليف الشعائر الدينية ورسوم دفن الموتى.
ألحقت إصلاحات “أوروكاجينا” الضرر بمكانة المعبد في الحياة السومرية، كمركز اقتصادي وسياسي، لكنه منح المعبد الأراضي المصادرة من ممتلكات الملك السابق، وحولها من أملاك عامة إلى أملاك الآلهة.
أنهى الحاكم الجديد تدخل الدولة في عدة قضايا تعتبر من حقوق المواطنين، فمنع احتكار السلطة للحركة التجارية، ودافع بقوة عن الملكية الفردية، ومنع التعدي عليها من أي سلطة كانت.
وبالرغم من أن “أوروكاجينا” دعم قراراته هذه، بأن ادعى بأنها أوحيت إليه من الآلهة، إلا أن إصلاحاته ستضعف المملكة بشكل كبير.
ففي مجتمع زراعي كان الاعتماد الأكبر في حشد الجيوش، على ما يمكن وصفهم بالعبيد، أو المزارعين الذين يعملون تحت أمرة ثري من الأثرياء، مثل الإقطاعيين.
ويبدو أن الملك الجديد لم يسعفه الوقت لتشكيل عصبية جديدة، أو شعور وطني يجمع مختلف أفراد الشعب، بعد أن مسّت ثورته مصالح الأثرياء.
والحروب التي امتدت بين لكش وأوما لمائة عام، وكانت تنتهي دومًا بانتصار لكش، وضعت هذه المرّة أوزارها بعد حصار خانق، بسيطرة الأوميين على مملكة أول مصلح اجتماعي في الشرق القديم.
“أوروكاجينا” الذي لاحقه الغزاة بعد سقوط مملكته، حاصروه مرتين في مدينة مجاورة، ثم اختفى أثره من الوثائق التاريخية، وبقي مصيره مجهولًا حتى يومنا هذا.
وصلتنا إصلاحات ملك لكش من خلال “مخاريط الحرية”، وهي أقدم وثيقة بين أيدينا تظهر فيها كلمة “الحرية”، كحق قانوني من حقوق المواطنين، وكانت الكلمة المعبرة عنها في اللغة السومرية “أماجي”. وتعني حرفيًا العودة إلى الأم، فيما يشير معناها إلى تحرر الشخص من الدين، وهذا ما يعطينا صورة عن حجم دور الديون في استعباد السومريين ذلك الزمن.
عرفنا هذه القصة عندما وصلت بعثة أثرية فرنسية عام 1877 إلى “تل الهبة” في العراق، وكشف التنقيب عن المملكة التي انطلقت منها كلمة “الحرية”، والجيوش والثورات والغزاة والطامعين الذي مرّوا على ترابها، حين كان كانت واحدة من أول امبراطوريات الأرض، وتدعى لكش.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :