إبراهيم العلوش
مثل مشهد مسرحي فانتازي تحولت الرقة غداة احتلالها من قبل داعش، جاءت جحافل من الملتحين المسلحين يرتدون أزياء أفغانية وملأوا الشوارع، نشروا أغانيهم التي تترنم بالدولة الداعشية بلا موسيقى، غناء صحراوي جاف ومقدّد، بلا أصوات نسائية، وبلا موسيقى، وبلهجة آمرة كانوا يرددون: سلامي على الدولة.
تحول اللصوص والمخبرون السابقون إلى صفوف الدولة الداعشية، وكانوا يشدون شعور لحاهم، لتطول أكثر قبل أن يفوتهم الانضمام إلى صفوف المنتصرين الجدد، بعدما ابتلعوه في المشهد البعثي السابق، تحولت الألقاب فجأة من رفيق وأستاذ إلى شيخ وأخ، وبدلًا من حماية صور وتماثيل الأسد، التي كانوا يرعونها طوال نصف قرن، تحولوا إلى حماية الفتاوى والألقاب الداعشية الجديدة، ونشروا صور النساء المغمسات بالسواد مع جمل تمتدح الوأد وتضييع الملامح والشخصية، بعدما كان الأمر يقتصر على تغييب النساء في المطابخ وتحت حجاب خفيف وملون.
انفلت الداعشيون من كل الجنسيات في الشوارع، بابتساماتهم البلهاء المتفائلة والمغرورة بالنصر المبين، وسموا أنفسهم بالمهاجرين، وأطلقوا علينا مبدئيًا لقب الأنصار، ريثما يفحصون صلاحيتنا لهذا اللقب الذي تناولوه من مسافة ألف وأربعمئة عام ونيف، كانت جحافلهم تنضم إلى مسرح اللامعقول.. كانوا طاجيك وشيشان وصينيين وتوانسة وليبيين ومصريين ومغاربة وأوربيين وأتراكًا وأفارقة وسوريين، ملثمين وغير ملثمين، كانوا جميعًا مغبرين كأنهم أخرجوا من قبورهم للتو، وجاؤوا عابرين للزمان وللمكان في مشهد مسرحي خشبته شوارع ومباني الرقة جميعها.
في محلات النت صرت تسمع لهجات ولغات مختلطة من الشرق ومن الغرب، وكان حس النصر والغنيمة هو المهيمن على خطاباتهم عبر برامج التواصل، يبشرون أهاليهم وأنصارهم عبر العالم بالنصر المبين الذي حققوه علينا، ولم يفت أحد التونسيين أن يطلق لخياله العنان ويصف الرقة بالجنة الجميلة على نهر الفرات، بيوتها مؤثثة، وفاخرة، ونساؤها جميلات، كان يتكلم وكأنه يضع يده الأخرى على ذكره، وهو يزف البشرى بالنصر المبين.
وبالفعل اندفعت جوقات من الدواعش تبحث عن فتيات أبكار للزواج، فهم قد هجروا نساءهم وأهلهم في فسطاط الكفر، وجاؤوا هنا يحملون أرواحهم وفحولتهم على أكفهم، وما الزواج إلا وسيلة لتخفيف الأعباء، ولزرع بذرة الإيمان في أرحام النساء لينجبن الأجيال القادمة من حملة السيوف والتروس والتنكيل.. بناة دولة الإسلام الداعشي.
ولم تعد الموانع تؤخر مهام المجتهدين، فتجمّع خمسة منهم لخطبة امرأة سمعوا أنها عزباء تعيش في الجوار، وطرقوا باب أهلها في الساعة الواحدة ليلًا، وحتمًا كانوا عازمين على زفافها في نفس لحظة القبول والإيجاب، ولكن الخاطب اكتشف من كلام أهلها المرعوبين بأنها ثيب، وليست بكرًا، وهو لا يقبل إلا البكر زوجة له، فأمر مرؤوسيه بالقيام معه، والانصراف عن الأهل الذين استفاقوا قبل نصف ساعة على طرق بابهم بشكل مفاجئ، ظانين بأن دورية من أمن التنظيم جاءت تعتقل أحد أفراد العائلة.
الناس ارتبكوا وهم يحاولون الانسجام مع المشهد المسرحي الجديد، فحتى المصلون ومرتادو الجوامع كانوا مذعورين من حملة السلاح الذين يتصايحون في المساجد ومن على المنابر، وتتلون خطبهم وأحاديثهم بالدم، وبالغنائم، والسبي، مستندين إلى أحاديث واجتهادات خاصة بهم، لا يستطيع أحد مجادلتهم بها، وإلا اتهموه بالتصوف أو بأنه أشعري أو من المرجئة أو الباطنية أو بما يشاؤون من مسببات القتل، التي كان الغاية منها ردع الناس وتخويفهم، أكثر مما هي لتطبيق فتوى بحذافيرها.
كانت تغيرات المشهد عنيفة على الناس وصار المجاهدون يفتشون المارة سائلين عن الدخان والسلاح ولم يتورعوا عن التدقيق بألبسة النساء في طرق ملتوية للتحرش، وللتخويف والإجبار على الزواج لنيل الحماية.
قص الرجال بناطيلهم وكلابياتهم من الأسفل على الطريقة الوهابية، ورموا مسابحهم التي تبين أنها بدعة، ورموا موتاهم بلا وداع خشية أن يتهموا من قبل الدواعش بالشرك، وأخفوا علب الدخان التي صارت تهمتها تضارع تهمة الردة والكفر، وصاح أحد المنافقين الجدد بصوت مسرحي هز أركان المكان:
- الحمد الله الذي أرسلكم لتهدوننا إلى الإيمان الصحيح بعد طول الضلال!
وقد صار لاحقًا يحتكر توريد أحد أنواع مشروبات الطاقة التي يدمن عليها المنتصرون الجدد!
وصار من حق أي داعشي دخول البيوت، والتفتيش عن الدخان، وكأن التبغ هو سبب عدم انتشار الإسلام، وعلى الحواجز صار السؤال عن الإيمان وتلاوة آيات يحددها الفاحص أو أدعية كالصلوات الإبراهيمية أو غيرها، وعن التدخين، وعن وجود سلاح، وعن رأيك بانتصار الإسلام على الكفار والمرتدين، بعدما كان السؤال على حواجز البعث عن حبك للأب القائد ومخابراته ومنافقيه، واستعدادك لكتابة التقارير بالمخربين، وإيمانك بالأمة العربية وبوحدتها من المحيط إلى الخليج.
وتغيرت ملامح المسافرين والهاربين، حيث صاروا يمثلون دور المرضى والزوار الراجعين بعد يوم أو يومين لزيارة غايتها صلة الرحم، وتأكيدهم على عزمهم نصرة الإسلام الداعشي وعزته، ريثما يخرجون من آخر حاجز من حواجز المشهد المسرحي، حيث ترمي النساء النقاب ويخرج الرجال سيكارة لا أحد يعرف أين كانت مخبّأة، وينظر المسافرون إلى بعضهم البعض بفرح لخلاصهم من دور الكومبارس المسرحي الذي كانوا يقومون به طوال حصارهم تحت بنادق داعش.
ورغم فرار آلاف السكان من المشهد، إلا أن داعش كانت توزع المشاهد المسرحية المتواصلة على حشبة الرقة، بشكل مقاطع سينمائية، ومقاطع فيديو، مدخلة تمازج المسرح مع السينما، كما فعل المجددون المسرحيون، الذين دمجوا الجمهور بالخشبة بالمشهد السينمائي بالديكور، منذ عهد بريخت، إلى سعد الله ونوس، إلى المسرحيين المغاربة الذين تخلوا حتى عن الكلام والحوار من أجل المشهدية والأضواء الجذابة.
الفصل الأخير من المشهد في الرقة يتحول إلى دمار، فالهجوم على المدينة رفع وتيرة الدراما، وجعل الموت أكثر اقترابًا مما كان عليه سابقًا في بداية مشهد الاحتلال الداعشي الذي بدا أشبه ببروفة تجريبية لهذا المشهد المتصاعد بالدراما والذي يحصد الأرواح والعائلات بالجملة، ويحول الخشبىة المسرحية إلى جحيم حقيقي، معلنًا دمار المدينة، وموت الممثلين الدواعش، والكومبارس من الأهالي، أفراد وجماعات، وبموسيقى تصويرية تعزفها طائرات التحالف الغربي ومدافعه مقلدة مشاهد الفيلم الأمريكي في فيتنام (القيامة الآن) للمخرج فرانسيس كوبولا.
الرقة اليوم بشوراعها، وساحاتها، ومبانيها، بشهدائها، وبأهلها، تتحول إلى مشهد مسرحي هائل… تندمج فيه كل التقنيات الفنية والمسرحية، ليشكل مسرحًا مرعبًا.. هو مسرح الموت!