في الإعلام الموالي للنظام السوري، كانت حلب خلال أعوام الثورة “أهم المدن والحاضرة الاقتصادية التي يسعى الجيش إلى إعادة الأمن والأمان إليها”، وكانت الأحياء الغربية التي بقيت تحت سيطرة قوّات الأسد “الصورة الحضارية عن المجتمع الحلبي”.
على الجانب الآخر من المدينة، صبّ النظام غضبه على انتفاضة الشعب، وحاول أن يحرق الأحياء السكنية بمن فيها، تحت ذريعة “محاربة الإرهاب الدخيل وتطهير المدينة”.
وخلف الصورتين، كانت محاولات التشييع الدينية تصل إلى مناطق سيطرة النظام في المدينة، كامتداد للمشروع الإيراني في سوريا، كما كانت قوات الأسد تحارب فصائل المعارضة مدعومةً بعناصر الميليشيات الشيعية الإيرانية والعراقية اللبنانية، ما وحّد المدينة في إطار “الاستهداف الشيعي الممنهج” الذي اتخذ أشكالًا مختلفة على الصعيدين العسكري والعقائدي والديموغرافي.
“الظلّ الشيعي” في حلب بعد الثورة
انعكاس الحالة الأمنية وأثر التغيير الديموغرافي
وقد لا تبدو محاولات التشييع في حلب مماثلة لتلك التي ظهرت في دمشق وحمص والساحل السوري من حيث الانتشار والتأثير والوضوح، إلّا أنّ بعض التفاصيل جعلت لمدينة حلب صلة بـ “مشروع التشييع الإيراني” في سوريا.
ظهور العمائم في الشهباء
رافق وصول القيادات العسكرية الشيعية إلى حلب، ظهور رجال دين شيعة في مناسبات مختلفة خلال الأعوام الماضية في حلب، وعكفت الصفحات الموالية للنظام على نشر صور رجال الدين من مختلف الطوائف في حلب لإظهار ما تصفه بـ “اللحمة الوطنيّة”.
ولم يكن الحضور الشيعي داخل مدينة حلب في السابق واسعًا أو ملحوظًا، إذ يتركّز وجود الطائفة في المحافظة ضمن قريتي نبّل والزهراء، أما في المدينة فوجودهم أشبه بالمعدوم.
وبحسب ”ت. ن.“ (31 عامًا)، الذي طلب عدم كشف اسمه كاملًا لأسباب أمنيّة، فإنّ رجال الدين الشيعة يصلون إلى حلب ويتجوّلون فيها، إلّا أنّ الأمر ليس على نطاق واسع، ويتركّز في أحياء معيّنة، كالمشهد الذي يوجد فيه “مسجد النقطة”.
الشاب الذي يعمل في جامعة حلب أكّد أنّ عدم الظهور الكبير لرجال الدين الشيعة لا يرتبط بالضرورة بعدم وجودهم أو قلّة عددهم، وإنما قد تكون تحرّكاتهم غير معلنة، منوّهًا إلى أنّ أهالي المدينة يتداولون أخبارًا حول تشيّع عدد من مشايخ المدينة السنّة، ومنهم مفتي حلب، محمود العكّام.
عنب بلدي تحدّثت إلى ”أحمد. س.“، وهو تاجر يمتلك علاقات واسعة مع مشايخ حلب، وأوضح أنّ عناصر من الدفاع الوطني وعناصر ميليشيا “حزب الله” يلقّبون العكّام بـ “مولانا”، الأمر الذي يؤكّد، من وجهة نظره، صحّة أنباء تشيّع مفتي حلب.
مؤشرات التغيير الديموغرافي
تنصبّ سياسة إيران في سوريا حاليًا على التغيير الديموغرافي، مبتعدةً بذلك عن محاولات التأثير العقائدي التي انتهجتها نهاية القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة في سوريا، الأمر المرتبط بما وفّرته الحرب والانتشار العسكري من مجال تحرّك سريع لتثبيت الوجود الإيراني وزرعه على الأرض السورية.
وقد لا تجد في حلب مشاريع علنية تحت شعارات إيرانية، كما مشروع “تنظيم بساتين المزة” في دمشق، إلّا أنّ تحرّكات خفيّة على مستوى العقارات بدأت تتكشّف في الآونة الأخيرة.
عنب بلدي تمكّنت من الحصول على وثيقة تثبت قيام سيدة فلسطينية متشيّعة بشراء عدد من العقارات في المدينة، بحجّة أنّ عائلتها الفلسطينية المقيمة في السعودية ترغب في استثمار أموالها.
السيدة ”م. خ.“، من مواليد مخيّم حندرات، متزوّجة من رجل سوري من مدينة اللاذقية ينتمي إلى الطائفة العلوية، وأكّدت مصادر محلّية مقرّبة منها أنّها اشترت أكثر من عقار في المدينة بعد أن عادت من لبنان محمّلة بأفكار “حزب الله” اللبناني.
لكن هذه المحاولات يمكن أن تبقى في إطار محدود ويصعب تعميمها كظاهرة في المدينة، إذ لم يتمّ الحديث حتى الآن عن مشاريع استثماريّة واسعة النطاق، رغم بدء الحديث عن إعادة الإعمار، كما يحدّ ارتفاع أسعار العقارات تدريجيًا بعد سيطرة النظام على مدينة حلب والاستقرار الأمني في المدينة من حركة بيع العقارات الكبيرة التي غزت حلب بين عامي 2012 و2015، كنتيجة لرغبة الأهالي في مغادرة المدينة.
التركيز على الأطفال والمراهقين
في نهاية حزيران الماضي أُقيمت احتفالية للأطفال في ساحة سعد الله الجابري وسط مدينة حلب، في إطار تسلية وترفيه الأطفال، وتقديم الهدايا الرمزية لهم بمناسبة عيد الفطر. اللافت في الحفل أنّ أعلام “حزب الله” اللبناني كانت الأبرز في الساحة، كما كانت مكبرات الصوت تصدح بالأغاني التي تشيد بالحزب.
الحفل الذي أثار حفيظة السكان لم يحظَ بتغطية إعلامية كبيرة من قبل وسائل الإعلام الموالية للنظام، الأمر المرتبط بـ “فجاجة” المظاهر الطائفية.
التاجر أحمد أكّد لعنب بلدي أنّ حالة من الوعي منتشرة بين السكان حول خطورة التأثير على الأطفال من خلال فعاليات مماثلة، لافتًا إلى أنّ هذه المظاهر مرفوضة في المجتمع الحلبي تمامًا.
لكنه أردف أنّ أغاني “اللطميات” الشيعية التي تصدر غالبًا عن سيارات عناصر الميليشيات الموالية للنظام، باتت تنتشر على أجهزة المحمول الخاصة بالمراهقين، ورغم أنّ الأمر يرتبط بـ “موضة” من وجهة نظره، إلّا أنه يمكن أن يكون بابًا للتأثر بأفكار أخرى.
المظاهر الميليشياوية في حلب
“الشبيحة” أكثر من عناصر “حزب الله“
يمكن تمييز عناصر الميليشيات الطائفية عن غيرهم في حلب من خلال الشعارات المختلفة التي تظهر على اللباس العسكري، أو من الأعلام والرموز التي يتمّ رفعها على السيارات، وحتى من نمط الأغاني التي تصدر من هذه السيارات.
في مدينة حلب، وعلى خلاف دمشق، يؤكّد السكان أنّ عناصر الميليشيات المحلّية هي الأكثر انتشارًا، بالمقارنة مع الميليشيات الطائفيّة، ولا بدّ من وجود عناصر “حزب الله” وعناصر عراقيين في حماية “مسجد النقطة” ضمن منطقة المشهد، ومناطق أخرى من المدينة.
ووفق معلومات عنب بلدي فإن سيارات الميليشيات الطائفية في حلب غالبًا ما تتم تغطيتها من الخلف بعلَم إيران، فيما يحافظ عناصر “حزب الله” على تمييز أنفسهم بالشارات الصفراء.
أما في قريتي نبّل والزهراء (الشيعيّتين) القريبتين من حلب فانتشرت مجموعات مسلّحة محلّية منذ بداية الثورة السوريّة، ويتمّ دعم هذه المجموعات من قبل إيران بشكل مباشر، ورغم أنها تعدّ حليفًا عسكريًا للنظام، إلا أن العلاقة بينها وبين قوّات الأسد وبعض المجموعات الرديفة مثل قوات “الفرقة الرابعة” و”لواء القدس الفلسطيني” يشوبها الاضطراب.
هذا الاضطراب تجلّى في إقدام مجموعات من نبّل والزهراء على قطع الطريق المؤدّي إلى حلب في تمّوز الماضي، احتجاجًا على قيام حواجز قوات الأسد بفرض أتاوات على الشاحنات التي تنقل البضائع على الطريق، الأمر الذي دفع النظام للاستجابة لمطالبهم، قبل أن يستقدم المزيد من حواجز “الفرقة الرابعة” ونشرها على الطريق لكبح أيّ تحرّكات مماثلة.
وخلال الآونة الأخيرة ارتفعت وتيرة السخط الشعبي في مدينة حلب على المجموعات العسكرية الرديفة للنظام، بعد حوادث اعتداء على مواطنين وصلت حدّ القتل بطرق “وحشيّة”، ما دفع النظام إلى تقييد الميليشيات، ونشر عناصر “الشرطة العسكرية” و”أمن الدولة” في مراكز المدينة.
ويحمل انتشار عناصر الأمن التابعين للنظام و”الشرطة العسكرية” الروسيّة في مدينة حلب مؤشرات على كون النفوذ الأكبر في المدينة للنظام، وذلك بدعم روسيّ على حساب الحضور الإيراني، إذ غالبًا ما تحمل اللافتات الكبيرة المعلّقة في شوارع المدينة صور رئيس النظام، بشار الأسد، مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أما صور حسن نصر الله والخميني فترفع على نطاق أضيق.
بين الدولة الحمدانية ودولة الأسد..
أثر طفيف للشيعة في مدينة حلب
قبل وصول سيف الدولة الحمداني إلى مدينة حلب في القرن الرابع للهجرة لم يكن للشيعة وجود يذكر في منطقة بلاد الشام، إذ يتحدّث المؤرخون عن عهد الدولة الحمدانية في حلب كفترة مؤقّتة و”قصيرة” في تاريخ انتشار المذهب الشيعي في المنطقة.
استمرّ حكم آل “حمدان” لحلب قرابة ستين عامًا، وعلى الرغم من أنّ سياسية الحمدانيين وصفت بأنها “غير متشدّدة” تجاه الطوائف الأخرى، إلّا أنّ الصلاة كانت تقام في الجوامع على المذهب “الجعفري”، كما شهدت تلك الفترة دخول مجموعات من السكّان في الفكر الشيعي.
عقب انهيار الدولة الحمدانيّة كان الحكم للفاطميين في حلب ومناطق أخرى من بلاد الشام، ومن المعروف أنّ الدولة الفاطمية (العبيدية) كانت تتبع المذهب الإسماعيلي، إلّا أن فترة حكمهم كانت مليئة بالتخبطات السياسية والصراعات.
خلال تلك الفترة وحتى وصول صلاح الدين الأيوبي وتوحيده بلاد الشام، شكّل الشيعة في سوريا مجموعات تحاول أن تحافظ على فكرها مع اقتراب “خطر الدولة السنيّة الجديدة” وما سيترتب عليهم من عزلة سيقعون بها لاحقًا.
وكانت لسطوة الدولة الأيّوبية، ومن بعدها الدولة العثمانية، أثر بالغ في الحد من الوجود الشيعي الذي خلقته الدولة الحمدانيّة.
يرفض الكثير من المؤرّخين الشيعة الحديث عن الوجود الشيعي في حلب كحدث “طارئ” مرتبط بحكم آل حمدان، إلّا أنّ الشواهدّ التاريخية المرتكزة إلى الآثار المادية (المقامات الشيعية) تشير إلى تكوّنها في عهد الحمدانيين فقط، ويلفت الباحث السوري المتخصص بالتاريخ، كرم نشار، إلى أنّ “حلب شغلت موقعًا هامشيًا في الخيال الشيعي على الرغم من حكم آل حمدان لها قرابة المئة عام، وذلك لأنها لم ترتبط بأي من المراحل التأسيسية للذاكرة الشيعية في المنطقة ولا بأحد أعلام أو شهداء آل البيت”.
ذلك الأمر امتدّ حتى القرن العشرين، إذ تشير إحصائية سكّان سوريا لعام 1953 إلى أنّ نسبة الشيعة في عموم سوريا لم تكن تتجاوز 0.4% من إجمالي عدد السكان، ولم تتأثّر حلب، باستثناء حالات فردية، بحركة “التبشير” الشيعي محدودة الأثر، التي رافقت قدوم الشيخ محسن الأمين الحسيني من جبل عامل في لبنان إلى سوريا، وتأسيسه أول مدرسة شيعية في سوريا باسم “المدرسة العلوية”.
ومع وصول حزب البعث إلى الحكم في سوريا، كانت العوامل الإقليمية والسياسية، تجبر حافظ الأسد أن يبقى على مقربة “حذرة” من إيران، ورغم دور جمعية “المرتضى” التي تأسست في اللاذقية عام 1981، فإنّ حركة التشيّع بلغت ذروتها في سوريا بعد عام 1999، الأمر المرتبط بتعاظم العلاقة بين نظام الأسد و”حزب الله” في لبنان.
أحد أبرز مظاهر محاولات “التبشير الشيعي” في حلب تبلورت في مشاركة نائب الأمين العام لـ “حزب الله”، الشيخ نعيم قاسم، ضمن احتفالية “أسبوع الوحدة الإسلامي” في مسجد النقطة بحلب، وتضمن الاحتفال عرسًا جماعيًا لـ 60 شيعيًا.
أسماء كبيرة في نظام الأسد تورطت بـ “مشروع التشييع” في سوريا، المدعوم من إيران، وتجلّت مظاهر هذا المشروع في محاولة “تشييع الوزارات”، وإضعاف المدارس الدينية السنية مقابل دعم الشيعية، وكان نصيب حلب من ذلك ثانويّتين شرعيّتين شيعيّتين.
ووفق الإحصائيّة التي قدّمها كتاب “البعث الشيعي” للباحث السوري عبد الرحمن الحاج، فإنّ ما يقارب 16 ألف سوري اعتنقوا المذهب الشيعي بين عامي 1919 و2007، 10% منهم في محافظة حلب.
وبالحديث عن حلب كمحافظة تجدر الإشارة إلى أنّ المدينة لم تتأثّر بحركة التشيّع على نطاق واسع كما حصل في الأرياف، إذ تركّزت محاولات التشييع ضمن المدينة في حي المشهد (حيث يوجد مسجد النقطة)، ومنطقة الليرمون، بحسب الحاج.
الهويّة الحلبية وإرث الحرب في مواجهة “المدّ الشيعي”
حوار مع الباحث السوري عبد الرحمن الحاج
شقّت الحرب في تفاصيل مدينة حلب صدوعًا عميقة، وتركت آثارها في الشكل المادّي للمدينة وفي الحالة الاقتصادية، والأهم من ذاك أنها أحدثت خللًا في البنية الاجتماعية.
على طرفي المدينة كان السكان يقاومون، وإن اختلفت أهدافهم وحتّى توجهاتهم، لكن يُحسب لهم أنهم أبدوا نَفَسًا طويلًا أمام الحرب، واخترعوا أساليبهم الخاصة للحفاظ على الحدّ الأدنى من أنماط حياتهم وعلاقاتهم الاجتماعية، الأمر الذي من شأنه أن ينعكس على تدعيم هويّتهم بفعل المقاومة.
تلك الهويّة ظلّت تستخدم في “نبذ الغريب”، وإن لا يبدو الأمر إيجابيًا بالمطلق، إلّا أنه استطاع منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى الآن، أن يخفف من وطأة محاولات فرض البعث حضورًا طائفيًا لتطويع المدينة، ثمّ محاولات التمدّد الشيعي منذ التسعينيات.
خلال الثورة السورية، ومع محاولات إيران زرع الحضور الشيعي في سوريا، كانت حلب هدفًا مهمًا للميليشيات الطائفية التي ساندت النظام في حربه ضدّ فصائل المعارضة، إلّا أنّ الصفقات السياسية لم تكن في صالح الإيرانيين في حلب، وذلك أدى إلى حصر مظاهر التشيع التي بقيت في إطار محاولات محدودة، لا ترقى إلى تلك التي انتهجتها إيران في العاصمة وحمص والمنطقة الواصلة بين دمشق والساحل السوري.
ورغم أن تركيز إيران على دعم “القوس الشيعي” حول الحدود اللبنانية كان أكبر، إلّا أنّ وجود “قواعد” شيعية في حلب بدا في فترة ما ضروريًا لدعم قريتي نبّل والزهراء في ريف حلب، ومن أجل خلق مرتكزات شيعيّة في إحدى أكبر المدن السورية.
عنب بلدي حاورت الباحث الحلبيّ عبد الرحمن الحاجّ، الذي أصدر عام 2008، كتاب “البعث الشيعي”، حول فرص التمدّد الشيعي في حلب، وناقشت معه الأسباب التي تضعف من تلك الفرص.
الرخاء الاقتصادي وطبيعة التديّن
يشير الحاجّ إلى أنّ العامل الاقتصادي أثّر في عدم انصياع حلب بشكل واسع لمحاولات التشيّع خلال العشرين عامًا الأخيرة، إذ إنّ طبيعة عمل قسم كبير من الحلبيين بالتجارة، ويسرهم المادّي، جعلتهم أبعد عن الاهتمام بالبحث في العقائد.
ويذكر الباحث أنه رغم الطابع المتديّن للمدينة، فإنّ هذا التديّن جزء من هويّة فقط، ومركّب ثقافي، وليس محرّكًا لأهلها، وذلك جعل علاقتهم مع رجال الدين لا تحمل طابع التبعيّة.
كما ”أدى إغراق الحلبيين في الجانب المادّي إلى بحثهم عن جوانب روحانية جعلت من طابع تديّنهم صوفيًا، فحلب لم تكن مكانًا مناسبًا للفكر المتشدد، ولم يدخلها الفكر السلفي، وبقي التشيع على أطرافها”.
تلك العلاقة مع الدين جعلت من النظرة التاريخية لأهالي المدينة تجاه التغيير الديني نظرة غير مرغوب بها، وبقيت هذه الحالة كجزء من الإرث الحضاري لأهالي المدينة يمكن أن يعوّل عليه في مواجهة بعض المحاولات الحالية.
وكون الحالة مختلفةً في الريف عن المدينة، فإنّ محاولات التشييع تركّزت خلال القرن الماضي في القرى المحيطة بحلب، وتعدّ قرية نبّل مثالًا على ذلك.
أما بعد الثورة ومع وصول الميليشيات الطائفية وقوات الأسد إلى ريف حلب الغربي، نجحت محاولات عناصر هذه الميليشيات بتشييع مجموعات من أهالي بلدتي خان العسل والمنصورة.
غياب الحامل ووحدة الطائفة
تعدّ مدينة حلب من المدن التي تقطنها أغلبية مسلمة سنّية إلى جانب قسم من المسيحيين، أما انتشار العلويّين فكان محدودًا جدًا، واقتصر على بعض الموظّفين الموفدين من مدن الساحل السوري، ذلك ما أشار إليه الحاجّ بوصفه “غياب الحامل العلوّي”، الذي استخدم في مناطق أخرى من سوريا لتعزيز الوجود الشيعي.
وكانت “أحداث الإخوان” في ثمانينيات القرن الماضي وما تعرّضت له المدينة إثرها من حصار وتضييق، نقطة فصل في علاقة حلب بالعلويين، وسببًا وجيهًا لعد قبولهم في المجتمع الحلبي.
أما “الوجود الشيعي الآن فهو أسوأ من منظور حلبي لكون حاملي الطائفة من الأجانب، وعندما يكون الأمر مرتبطًا بتغيير عقائد فتقبّل الحلبيين سيكون صعبًا جدًا”.
“نعمة الجغرافيا” تجعل حلب خارج “القوس”
بالاستناد إلى اختلاف الاستراتيجيات التي عمل عليها الإيرانيون قبل الثورة وبعدها، يشير الحاجّ إلى أنّ الإيرانيين قبل عام 2011 ركّزوا على تغيير عقائد الناس وإحداث تغيير اجتماعي و”تبشير شيعي”، أما بعد الحرب فاختلفت الخطة إلى جهة التحكم بالمعابر البرية لتأمين نقطة وصل بين إيران وسوريا لبنان، إضافة إلى التهجير والتغيير الديموغرافي والاستثمار.
ويوضح أنّ العمليات الإيرانية في العاصمة وحمص والمنطقة الواصلة بين دمشق والساحل تشمل التهجير والتجنيس وشراء العقارات، على أمل أن تكون هذه البؤر حامية للنظام بمواجهة ردود فعل على العملية العسكرية.
وتخدم المناطق المذكورة مشروع “القوس الشيعي” الذي يهدف إلى تأمين الوصول إلى الأراضي اللبنانية، أما حلب التي تقترب من الحدود الشمالية فليست موقعًا استراتيجيًا لنشر الوجود الشيعي حاليًا.
ويضيف الحاج “الوجود حاليًا ضعيف في حلب، يمكن أن تتشكل جالية صغيرة، إلا أنّها ستكون منبوذة، المدينة طحنت ولن تقبل بوجود الشيعة”.
حركة تسرّب من الطائفة
على عكس المتوقّع، فإنّ معطيات الأحداث خلال السنوات السبع الماضية لم تكن في صالح “مشروع التشييع” بشكل كامل، فتورّط إيران إلى جانب نظام الأسد في الحرب على الشعب السوري، غيّرت وجهة نظر قلّة من “المتشيّعين”، وفق الباحث.
“بعض المتشيّعين من أقليات أخرى تأثروا بفترة انتصارات (حزب الله) في الجنوب، في الحرب رد فعلهم كان معاكسًا وأصبحوا ميليشيات تقاتل مع النظام”، يقول الحاج، مضيفًا “هذا يمكن أن يولّد تسرّبًا وحركة مضادة للتشيع، لكنّ هذه الحركة محدودة”.
مزارات شيعية في مدينة حلب
مسجد النقطة
على جبل “الجوشن” في منطقة المشهد، ضمن أحياء مدينة حلب الشرقية، يقع “مسجد مشهد النقطة” الذي يعتبر المقام الشيعي الأشهر في مدينة حلب، والذي تقول الروايات الشيعية إنه يعود إلى عام 61 هجري، أي 680 للميلاد، وهو العام الذي شهد معركة كربلاء الشهيرة (واقعة الطف).
وتقول الرواية إنّ يزيد بن معاوية أراد أن ينشر خبر مقتل الحسين عقب المعركة، فأمر بأخذ الرؤوس والسبايا إلى الشام لشهر الحادثة، فما إن وصل الموكب إلى حلب مرورًا بالكوفة والموصل، حتى وضعوا رأس الحسين على صخرة فوق جبل “الجوشن” قرب حلب فسالت قطرة منه عليها، الأمر الذي دفع الأهالي للاحتفاظ بالصخرة، حتى شيد لها الحمدانيون مقامًا فيما بعد.
ويؤكّد كثير من المؤرّخين أنّ المسجد أقيم في عهد الدولة الحمدانية في القرن الرابع الهجري، إذ يشير ياقوت الحموي في كتابه الشهير “معجم البلدان” إلى أنّ مشهد النقطة أُقيم على أنقاض دير مسيحيّ يدعى “دير مارت مروثا”، بأمر من سيف الدولة الحمداني.
في نهاية الحرب العالمية الأولى انفجر المسجد بعد اتخاذه مستودعًا للذخيرة من قبل الجيش العثماني، وبقي كذلك حتى عام 1958، بحسب ويكيبيديا، قبل أن تتبنّى “المرجعية الشيعية العليا” إعادة بناء المسجد، وحينها تشكلت جمعية “الإعمار والإحسان الإسلامية” الجعفرية لإعادة بناء “المشهد” فجرى الترميم والبناء، وأُعيدت الصخرة إلى مكانها.
أوّل احتفال شيعي كبير في المسجد تمّ في عام 2002، حين حضر نائب الأمين العام لـ “حزب الله” اللبناني إلى المشهد للمشاركة في فعاليات “أسبوع الوحدة الإسلامي”.
وخلال الأعوام الماضية تعرّض المسجد لتدمير كبير، إذ كانت فصائل المعارضة سيطرت على حيّ المشهد عام 2013، ووقع إثر ذلك تحت القصف، إلا أنّ النظام السوري أعاد ترميمه سريعًا عقب سيطرته على كامل مدينة حلب نهاية عام 2016، وافتتحه في نيسان الماضي ضمن حفل حضره رجال دين شيعة.
مقام محسن بن الحسين
ورد ذكر مشهد “المحسن” في الروايات الشيعية فقط، وهو مقام بني على جبل “الجوشن” أيضًا، على مقربة من “مسجد النقطة”، ويشير مؤرّخون سوريون إلى أنّ المقام هو في الأساس لشيخ يدعى محسن، وهو أحد “الأولياء الصالحين” في معتقد بعض أهالي حلب، إذ يقع هذا المقام داخل مسجد سنّي تاريخي عريق مسمى باسمه.
أما منتدى الرواية الشيعية فيقول إن موضع المشهد احتوى “سبايا آل البيت” بعد “موقعة الطف”، وأسقطت زوجة الحسين جنينها هناك، وأسمته “المحسن”، كما يشير إلى أنّ سيف الدولة حفر بنفسه في المكان، ووجد حجرًا كتب عليه “هذا قبر المحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السّلام”، وعندها بادر الأمير إلى إنشاء المقام.
ولم ترد معلومات عن حجّة إنشاء المقام سوى في بعض المقالات التي نشرت على مواقع “الدعوة الشيعية”، رغم أنّ المقام ليس مذكورًا ضمن الإرث العمراني أو الإنجازات المنسوبة للحمدانيين.