علي فرات
رغم سوداوية زمن الانقلابات العسكرية، فهو يبدو لنا اليوم مقمرًا وجميلًا. ففي ذلك الزمن كان العسكر يتداولون كراسي الحكم بمسرحيات معروفة الفصول.. احتلال مبنى الإذاعة والتلفزيون، البيان رقم (1)، تشكيل مجلس الثورة، الاعتماد على جهاز مخابرات جديد بدلاً من ذلك الجهاز المخابراتي الآفل لذلك الحاكم الآفل، وهلم جرًا وبهدلة تنتهي بجريمة اغتيال عدة أشخاص، وببهادل أخرى ملونة بدرجات الرمادي بين الأبيض والأسود.
كانت الانقلابات العسكرية، رغم سوئها، فرصًا للتغيير ولزعزعة أجهزة القمع ومنعها من الارتصاص والتماسك إلى درجة تحولها إلى غول يتحرك بذاته ولذاته، كما هي الحال عليه اليوم في سوريا، إذ إن ديناصور المخابرات صار يلتهم البشر والحجر بلا حساب وبلا عتاب وبلا أي إحساس بالشعور الوطني أو القومي أو الديني، فهو صار مكتفيًا بذاته ولذاته.
ما يحدث في سوريا اليوم طفرة نوعية لأجهزة المخابرات وهيمنتها المتسعة بلا حدود. لقد التهمت أجهزة المخابرات العسكرية الجيش والتهمت الشعب وبدأت تعمل لصالح كل من يمول وجودها، حيث يتضمن التمويل التسليح والتأهيل والهدم والتهجير والقتل الفردي والجماعي، وتكلفة تعويض بنية الدولة بشعب آخر غير الشعب النازح أو المقبور، والذي لم يثبت صلاحيته ليكون مرؤوسًا حقيقيًا مطواعًا لآلة القمع الصماء والعمياء، وحيث إن أجهزة المخابرات فقدت كل حواسها إلا حاسة اللمس، ولا تعرف إلا الالتهام، ثم الالتهام ثم الالتهام.
لماذا توقفت الانقلابات العسكرية، هل لأن مبنى الإذاعة والتلفزيون صار مئات المباني التي تحتوي على إذاعات وتلفزيونات؟ أم لأن البيان رقم (1) صار مثار نقاش وتمحيص وتعليقات في وسائل الاتصال الإلكترونية الحديثة؟ أم لأن أجهزة المخابرات صارت أخطبوطية الرؤوس وأخطبوطية الأرجل وأخطبوطية الأذرع والعيون والآذان مما يستحيل على صاحب فكرة الانقلاب العسكري أن يجد مجموعة غير مخترقة يعتمد عليها في تشكيل مجلس الثورة؟ أم لأن أجهزة المخابرات صارت أكثر من النمل وأشد شراسة من كل زواحف الأرض ومن كل كواسرها ومن كل وحوشها.
مسكين ذلك الضابط الذي تخطر في باله فكرة الانقلاب العسكري اليوم، سيجد نفسه في عزلة وجودية وأمام عماء استبدادي لا منفذ فيه ولا مخرج منه.
اليوم أصبحت الآلة العسكرية والمخابراتية كائنًا عالميًا وليست كائنًا وطنيًا أو قوميًا. فمثل السلاح الذي تستورده الجيوش صار وجودها غريبًا عن شعوبها وعن أحاسيسهم ومشاعرهم. صارت استعمارًا جديدًا في عصر العولمة التي لم تلحقها شعوبنا علميًا أو سياسيًا فأصبح الجيش المستورد للأفكار وللأسلحة وللأهداف وللمشاعر خارج حدود وقدرات الوطن، والجيش السوري اليوم ولاءه للروس وللإيرانيين أكثر من ولائه للشعب السوري الذي يعاني الأمرين من عدوانه.
فكما يعمل الناس عبر شبكة الإنترنت لدى شركات بعيدة، صارت المخابرات والجيوش تخدم وتخطط لشعارات ولأهداف منتجة في بلاد بعيدة، بلاد أبعد بكثير من بلاد واق الواق.