سميرة المسالمة – العربي الجديد
أثارت تصريحات عضو وفد المعارضة السورية في التفاوض مع النظام، خالد المحاميد، غضب الهيئة العليا للمفاوضات الذي عبّرت عنه بقرارها إلغاء عضويته من وفدها التفاوضي، لاعتباره “أن الحرب بين المعارضة والنظام وضعت أوزارها”، على الرغم من أن تصريحاته تأتي في سياق الاتفاقات فوق التفاوضية التي تفرضها كل من روسيا والإدارة الأميركية على الصراع السوري، والتي تغيّر، في كل مرة، مسارات الصراع، ووجهاته ومساحاته، وفق ما يخدم الصراع على سورية، وتقاسم النفوذ داخل أراضيها بين قوتين رئيسيتين، وما يتبعهما من قوى أخرى، يكاد ظهورها واختفاؤها يحدّد حسب المزاج الأميركي، ولاحقاً الروسي.
لم يأت المحاميد بما هو خارج بنود الاتفاقيات التي سميت “خفض التصعيد”، على الرغم من أن انتهاكاتها تحدث يومياً، على مسمع ومرأى من الدول الضامنة نفسها، لكنه عبر بوضوح عما يجب أن تكون عليه الحالة المسلحة بين الطرفين. وكان هذا بالإمكان، لو أن الدول الضامنة مارست دورها، وكانت لكيانات المعارضة (السياسية والعسكرية) التي أعلنت تأييدها اتفاق الجنوب ومباركتها له، وهو محور تصريح المحاميد، فاعليتها أو سلطتها على الفصائل المسلحة التي حولت صراعها من النظام إلى التصارع بعضها مع بعض، لتصبح الحرب الحقيقية التي تستهدف الشباب السوري قد تضاعفت، حيث باتت الفصائل المتحاربة أحد أدواتها ووقودها؛ إلى جانب النظام ومليشيا حزب الله وإيران وطيران روسيا.
لم تكن صراحة المحاميد، على الرغم من ملاحظاتي على طريقة صياغة تلك التصريحات، المأزق الوحيد الذي وجدت هيئة المفاوضات نفسها أمامه، بل كان واحداً من كثير غيره، فهي التي تعوّدت، كغيرها من كيانات المعارضة، الابتعاد عن مصارحة الشعب بكل ما يحيط بمسار ثورته التي تتولى هذه الكيانات قيادتها. والحقيقة، إن ما قاله المحاميد وضع الهيئة العليا في تناقضٍ واضح، من حيث هدف وجودها، وسبب استمرارها، إذ تجري الاتفاقيات بعيداً عنها، ومن ثم يصار إلى انتزاع موافقتها، كما حدث في مسار أستانة الذي هدف إلى تعطيل مسار جنيف، بل تغيير خريطة الأولويات الدولية، وتحجيم دور الملف السياسي الذي تضطلع الهيئة به، حسب قرار مجلس الأمن 2254.
لم تظهر “الهيئة العليا” إدراكها مخاطر وجود مسار تفاوضي آخر، لا تكون هي أحد أطرافه، هذا المسار الذي بدأ بعد خسارة المعارضة في حلب، وبعد أن أوقفت “الهيئة” مشاركتها في جولة جنيف في فبراير/ شباط 2016، معلنة “عدم العودة إلى جنيف قبل تحقيق المطالب الإنسانية”. بيد أنها عادت، بعد أكثر من عام، في مارس/ آذار 2017، إلى طاولة المفاوضات من دون أن يتحقق أيٌّ من مطالبها، بل وبعد أن عبّد الروس طريق “مفاوضات أستانة”، بالمشاركة مع تركيا وإيران باعتبارهما دولتين ضامنتين، في ديسمبر/ كانون الأول من عام 2017، وبعد أن أصبح مصير حلب بمثابة فزّاعة ترفع أمام كل الفصائل المعارضة للنظام، فلم تجد مفراً من حضور مفاوضاتٍ تتحدث عن المعارضة، وباسمها، وبحضورها من دون مشاركتها.
وعلى الرغم من كل الخسائر، والتراجعات، كان يمكن للهيئة أن تتجاوز عثراتها، وأن تعيد قراءة القرارات الدولية، وفي مقدمتها بيان جنيف، والقرار الأممي 2254، وأن تدرك أن دورها التفاوضي يقتضي أن تكون عامل جمع السوريين، وليس محل خلافٍ أو اختلاف، بأن تعمل على صوغ “رؤية لسورية المستقبل”، تأخذ بالاعتبار طموحات كل السوريين في دولة مواطنين ديمقراطية، أساسها إعلاء شأن المواطن السوري، وتحقيق عدالةٍ تأخذ بالإعتبار كل مكونات الشعب السوري، لا مجرّد الحديث عن مشاركةٍ مع نظامٍ، على الأسس السابقة نفسها (كما جاء في الرؤية التي صاغتها ومنحت الحكومة المشتركة سلطات مطلقة). هكذا، فعندما علت الأصوات السورية بملاحظاتٍ بشأن تلك “الرؤية”، اعتبرت الهيئة تلك الأصوات مجرّد نشاز، بل وأبعدتها، لأن الهيئة بوصفها سلطةً فوقية، سارت وفق مبدأ من ليس معي هو ضدي، لكنها اليوم تعلن عن استعدادها لإعادة النظر بتلك الرؤية التي أعلنتها من لندن، ليس لقناعتها بضرورة الاستماع إلى السوريين الذين انتقدوا تلك الرؤية، بل لأن قراراً دولياً اقتضى ذلك؛ هكذا بدون توضيحاتٍ للشعب، وبدون أي مراجعة نقدية.
في المقابل، كانت هناك فرصة أخرى لقراءة قرار مجلس الأمن 2254 ذي الصياغة الملتبسة، والتي يمكن تدويرها باتجاهاتٍ مختلفة، لقراءات متعدّدة، تتناسب وكل الأطراف المشاركة بصياغته من جهة، وبالموافقة عليه من جهة أخرى، وبكل صراحة، إلا أن “الهيئة العليا” فضلت أن تقرأه من زاوية واحدة، لم يشاركها بها أيٌّ من الدول ذات القرار والتأثير في الحل السوري، فهي لم تلحظ أبداً أن هيئة الحكم ذات الصلاحيات التنفيذية التي تتمسّك بها، على رئيس النظام السوري أن يمنحها صلاحياتها، كما أنها لم تدرك معنى أن تذكر كل من منصتي القاهرة وموسكو بالقرار، ولم تأخذ في اعتبارها أن القرار 2254 منح مبعوث الأمم المتحدة، ستيفان ديمستورا، صلاحية تشكيل الوفد المفاوض، أو على أقل ما يمكن أن لا يكتفي بوفد “الهيئة العليا للتفاوض” ممثلا عن المعارضة.
ندرك أن مساحة الحركة عند “الهيئة” محدودة، بسبب غلبة العامل الدولي، لكنها ليست كذلك فيما يتعلق بترتيب بيتها الداخلي، بتنظيم علاقاتها مع قوى سورية موجودة على الساحة، كانت حسب مقاس الهيئة أم لا، وهي لا يفترض بها أن تكون كذلك، حسب عرف العمل السياسي. لذا، كان واجبا أن تعمل الهيئة على تقريب وجهات النظر، من خلال طرح مشروع سوري توافقي، يتم الدفاع عنه، بغض النظر عمن له عدد أقل، أو أكثر، في هيئة الدفاع، أقصد وفد التفاوض. ولهذا، انطلقت أصوات كثيرة ونداءات وطنية كثيرة بضرورة أن تعمل “الهيئة العليا” على عقد مؤتمر وطني جامع، قبل الذهاب إلى جنيف 5، وكنت قد كتبت، في مقالتي “سورية في حوار المنصات”، (“العربي الجديد” 1/3/2017) “إن السوريين ليسوا بحاجة إلى منصات تحاور النظام، وإنما إلى وفد واحد للمعارضة”، و”لماذا لا تجتمع هذه الأطراف المعارضة، لكي تناقش فيما بينها كل القضايا، وتخرج بتوافقات معينة، لتشكل وفداً يفاوض عليها مع النظام”؟
لكنني واحدة من سوريين كثيرين تم استبعاد آرائهم التي أصبحت اليوم شعار المرحلة، فقط لأنها تستجدّ الآن بناء على ضغط خارجي، على الرغم من أنه طلب يقع ضمن الحاجات السورية. لكن بعد أن خسرنا نحو عام ونصف العام من أعمارنا، وربح النظام حلب، ومناطق في ريف دمشق وحمص وحماه، ويسير الآن باتجاه دير الزور، وقد اطمأن إلى مناطق أخرى، تحت مسمّى اتفاقيات خفض التصعيد، وكانت خسائرنا بالأرواح كبيرة، عشرات آلاف الضحايا من شهداء، ومهجّرين ونازحين وجرحى. نعم، على الرغم من تأخرنا في قراءة قرار مجلس الأمن 2254 الذي صدر نهاية 2015، وعلى الرغم مما دفعته سورية لقاء ذلك. وعلى الرغم من أن قرار الاجتماع بين المنصّات لم يكن سيادياً للهيئة، ولم يتم العمل به بقرار وطني داخلي، إلا أن ضروراته تؤجل أسئلتنا الكثيرة بشأن من يتحمّل مسؤولية ذلك التأخير ولماذا؟