محمد رشدي شربجي
أنها استقبلت برحابة صدر أكثر من مليون سوري بعد أن طردهم القريب قبل الغريب، وهو ذات السبب الذي يجعل تركيا والسويد وكندا بلدانًا عظيمة كذلك، كما أتاحت ألمانيا لهم فرصة حياة كريمة وتعليمًا لا يختلف عن حياة وتعليم أي مواطن ألماني له جذور في هذه الأرض عمرها آلاف السنين، كل الناس في ألمانيا متساوون أمام القانون، سودًا وبيضًا، مؤمنين وملحدين، يحكمهم قانون واحد صمّم بهدف ألا يظلم أحدًا ولا يعطي أفضلية لأحد.
سيذكرك بالتأكيد وأنت تقول ذلك أحد ما بالحقيقة الخالدة، التي لا تخطر على بال، وهي أن الدول تعمل لمصالحها، وأن مصلحة ما دفعت ألمانيا لاستقبال هذه الأعداد من اللاجئين وذات الكلام قيل عن تركيا وغيرها، وهو أمر صحيح بالمناسبة، ولكن ما المشكلة من محاولة مزاوجة الالتزام الأخلاقي الإنساني مع المصلحة السياسية؟ أليس هذا ما يجب أن تكون عليه الأمور أساسًا؟
ما الذي يجعل ألمانيا بلدًا عظيمًا؟
أنها تعلمنا ما يجب علينا أن نفعله، برغم اختلاف الظروف هناك وجه شبه بين النازي والنظام السوري، الألمانيون كانوا نازيين وانتخبوا هتلر بإرادتهم الحرة بالمناسبة، وحكموا شعوبًا وأقوامًا بالحديد والنار، وأعملوا جهدهم في اختراع وسائل إبادة نظيفة تتناسب مع روح الحداثة، وأشعلوا حربًا عالمية قضت على أكثر من 70 مليون إنسان، منهم أكثر من ثمانية ملايين ألماني وحوالي خمسة ملايين يهودي التهمتهم المحارق، انتهت هذه الحرب بدمار ألمانيا والعالم كليًا. لم يصرخ الألمان بعدها عن مؤامرة تستهدفهم، ولم يتحدثوا بكلام منمق عن مسؤولية السياسيين عن توريط الشعب في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل، بل لاموا أنفسهم، ويجد الزائر في مراكز الاعتقال التي شيدها النازي والتي أصبحت متاحف الآن تأكيدًا صارخًا عن مسؤولية الألمان، كشعب وأفراد وليس فقط كدولة وسياسيين، أخلاقيًا وسياسيًا عن هذه الفظاعات.
النظام السوري ليس بذكاء النازيين ولا تطورهم، مازال يستخدم وسائل إبادة بدائية، كالشنق والإعدام لأسرى يتمنون الموت يوميًا أساسًا، ومع أنه غير منتخب إلا أن أفعال النظام السوري تنال رضًا وترحيبًا بين قطاعات واسعة من الناس داخل سوريا أو خارجها، من العلويين والشيعة بشكل أساسي، وأبناء طوائف أخرى، بالإضافة لشرائح مجتمعية سنية ترى في المنتفضين زائدين عن الحاجة أساسًا.
إذا كنا نتمنى ألا يرى أبناؤنا المجازر مرة أخرى، فعلينا أن نعلم جمهور القاتل الندم، لا أؤمن بأن الشعوب غير مسؤولة عن جرائم حكامها، والمسؤولية المقصودة هنا هي مسؤولية أخلاقية وسياسية وليست مسؤولية جنائية طبعًا، الشعوب تعرف الحقيقة، دعك من الهراء المنتشر من أن الشعوب مغيّبة عن الحقيقة، جرائم حكامنا حقيقة تفقأ الأعين، مَن مِن العرب السنة في العراق على سبيل المثال لا يعرف ماذا كان يفعل صدام حسين؟ ومَن مِن العلويين لا يعرف ماذا يفعل نظام الأسد؟ ومَن مِن شيعة لبنان لا يعرف ماذا يفعل حزب الله في سوريا؟
ما الذي يجعل ألمانيا بلدًا عظيمًا؟
أنها أظهرت أن أفكارنا ليست أكثر من ترّهات بالية، وأن عالمنا المثالي الذي هندسناه على الورق هو نمر من ورق في حقيقته، في ألمانيا يتبادل الحديث مؤيد لداعش مع مؤيد للأسد الممانع، ومؤيد للنصرة مع مؤيد لحسن نصر الله النمر الممانع، ومؤيد لتركيا مع مؤيد إيران قائدة حديقة حيوانات الممانعة بدورها، ستجد من يؤيد بوتين عدو الإمبريالية، شاتمي العلمانية ومؤيديها، لاعني ألمانيا لأنها تستغل اليونان، ستجد كل هؤلاء الذين لم تجمعهم الرقة ولا إدلب ولا اللاذقية ولا الضاحية الجنوبية ولا طهران ولا اسطنبول وجمعهم طابور لجوء في ألمانيا، أليس من حق ألمانيا أن تكون بلدًا عظيمًا إذن؟