الأحزاب السورية.. قادة بلا جماهير
إبراهيم العلوش
ليست الجبهة الوطنية التقدمية هي المنتج السياسي المسخ الوحيد، فالزمن المخابراتي لوّث كل الحياة السياسية السورية، وأفرغها من محتواها، لتمتلئ بالحشرات السامة والقاتلة، التي تنمو برعاية المخابرات، بما فيها أحزاب المعارضة، التي تعاكس المخابرات في الاتجاه، ولكن تشابهها في الفعل السياسي من حيث البناء الفردي، وانعدام الحرية، وعدم القدرة على التجدد، وفشل استمالة الأجيال الجديدة إلى الحياة السياسية.
وتسببت هذه المكونات بفرار السوريين ليس من الدمار والخراب فقط، بل ومن الحياة السياسية وتكويناتها الفاسدة أيضًا. لقد سئم السوريون كل هذه البنى التنظيمية الاجتماعية، والسياسية التي تتشابه بتكويناتها مع أجهزة المخابرات.
هذا الخواء السياسي أنتج تكوينات طائفية تنازلت عن البلاد للغزاة الإيرانيين والروس وأنصارهم في حزب الله، والميليشيات الطائفية الشيعية العراقية والأفغانية، وجعلت الروح الوطنية لضباط وقادة الجيش الأسدي (العقائدي البطل) تتلخص بانعدام الشرف العسكري، والسعي إلى المكافآت الفردية التي قد لا تزيد أحيانًا عن ليتر عرق، وعلبة متّة، وإجازة مبيت، أو بضعة وعود كاذبة، مقابل قصف المدن والقرى، وتهجير المزيد من السوريين لزراعة مدنهم بالبطاطا.
أما المخلوق المسخ الآخر الذي استفاد من هذا الخواء، وتحول إلى وحش مهول، فهو تنظيم داعش ومشتقاته القاعدية، والذي يتشابه مع التنظيمات الإرهابية التي رعاها النظام أو استجلبها، فداعش، الفيروس الديني الطائفي، يشبه فيروس النظام التقدمي الطائفي، هذان الفيروسان وجدا أمامهما قفرًا سياسيًا، وخواء متعفنًا، فاندفعا في التضخم والوحشية، ليملآ ما قامت أنظمة المخابرات بنخره عبر عشرات السنين منذ بداية عصر الانقلابات، مرورًا بمخابرات عبد الناصر، حيث كان لها الفضل في استيلاد الحركات الجهادية، التي تحتكر الدين، وتكفّر كل البشر إلا من اتبعها.
ولا ننسى تناسل حزب “بي كي كي” الذي خلّف منظومة مشابهة لتنظيم داعش، وإن بلون أحمر أو أصفر، فهذا الخليط الأيديولوجي المسلح، والمعادي للتنظيمات السياسية بما فيها الأحزاب الكردية السورية، يعتبر نفسه أحدث تجلٍ للقومية وللماركسية وللرأسمالية بخلطة واحدة، وعلى شعوب المنطقة (المتخلفة بنظره) الخضوع له، والسلاح هو وسيلة الإقناع بخلطة الأفكار هذه، أسوة بسلاح داعش الذي اتخذه وسيلة إقناع قوية بصحة فتاويه، وأحقيته بنهب البيوت، وتهجير الناس، وقطع الرقاب، وجرّ الخراب على المدن والقرى التي يمر بها، وما فعله هذا الحزب وتشكيلاته في المناطق الكردية في تركيا، لا يختلف كثيرًا عما فعله حزب الله في القصير والقلمون وريف دمشق، ولا يختلف عما فعلته داعش وأتباعها في الرقة وفي بقية المدن السورية.
ورغم الثمن الفادح الذي دفعه تنظيم الإخوان المسلمين، وحزب الشعب، في معارضة نظام الأسد، فإن تحالف الإخوان مع حزب الشعب، كان له دور كبير في تكوين بنى المعارضة الفاشلة، اعتبارًا من المجلس الوطني، مرورًا بالائتلاف الوطني، وانتهاء بالهيئة العامة للمفاوضات، فكان التنظيمان يتسمان بالانغلاق التام على الذات، حتى تكاد تعتقد أنهما طائفتان أكثر من كونهما تنظيمين سياسيين، فانعدام الحيوية، وعدم القدرة على التجدد، جعل سن معظم أنصارهما فوق الأربعين، إلا ما ندر، وذلك عندما يقبل بعض أولاد أعضاء التنظيمين أو أقاربهما بوراثة العضوية، والاستفادة من التراكم السياسي القديم الذي كرّسه مؤسسو هذين التنظيمين المهمين، وكذلك التضحيات الكبيرة للرعيل السابق منهما.
تأسست عدة أحزاب في المعارضة السورية، وحملت شعارات لا تختلف كثيرًا عن أهداف الجبهة الوطنية التقدمية، وكانت شخصيات قادتها أهم من أهدافها السياسية، وأهم من الواجب الوطني أو السياسي، وكان الفشل من نصيبها، ولم تفلح أي من هذه الأحزاب حتى في بناء موقع إلكتروني مميّز، أو صحيفة حيوية، أو بنية تنظيمية ذات مصداقية، تجتذب بها الشباب، وتنظمهم في صفوف توقف هذا الخراب الوطني والسياسي الكبير، الذي يشبه خراب سد مأرب التاريخي.
لا يوجد حزب سياسي واحد على الأرض السورية، أو في المغتربات يتسم بالجماهيرية إلا حزب البعث، الذي تسوّق له المخابرات الناس من الحواجز، ومن المدارس، والجامعات، وباتفاق واضح على التكديس والقهر الجماهيري، وليس على الإيمان بالأهداف الوطنية والسياسية.
إفلاس هذه الأحزاب السياسية، وعدم فاعليتها، فتح المجال أمام بُنى ما قبل الدولة من العشائر والطوائف، لتشارك بالمزيد من التخريب الذي تصاعد حتى احتل البنى الثقافية السورية، فطوال الوقت تجد نقاشات سفسطائية عن عيوب الطوائف الأخرى، وتحريم نقد الطائفة الخاصة بالكاتب، أو التعرض لرموزها، والتي لم تعد تصلح إلا فلكلورًا عتيقًا للذكرى، وليس أداة للفعل، فزمن الأحزاب الحرة والتجمعات التجارية والصناعية، وعالم الكمبيوتر وتطبيقاته، لم يعد آبهًا بهذه البنى المفوتة، والتي يتطوع الكثير من المثقفين والسياسيين السوريين بتعطيرها وتزيينها، علّها تحمله إلى مكانة يسعى إليها، ومهما كانت النتائج كارثية على الآخرين.
لقد فرّ السوريون من وطنهم ليس فقط بسبب الدمار والخراب، وإنما أيضًا بسبب انهيار البنى الاجتماعية والسياسية، وعدم قدرتها على استيعاب الناس، وخاصة الشباب الذين يشكلون أغلبية البنية السكانية، فالأحزاب السورية ماتزال تبنى من أجل بناء مكانة لقادتها ولمؤسسيها ولتقدمهم الى الدول، والمنظمات الدولية، والجهات المانحة، وآخر همومها هو العمل الفعلي الجاد لبناء وطن حر ومستقل، لذلك فهي تسعى لاجتذاب التابعين والمنافقين، أكثر من سعيها إلى اجتذاب الأعضاء الأحرار والفاعلين.
هذا الخواء السياسي السوري، فتح المجال واسعًا أمام التطرف، وأمام البنى المتوحشة، وتشكيلات ما قبل الدولة كالطائفية، والعشائرية، إلى جوار أحزاب متقوقعة على نفسها، ويعيش قادتها أوهام الاستيلاء الوشيك على السلطة، وتقاسم الغنائم مع منافقيهم وأتباعهم، ليكوّنوا نظمًا مشابهة لنظام الأب المخابراتي الخالد.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :