“عندما أتحدّث عن الثورة السورية لا بد أن أتذكر أطفال درعا الذين خطّوا بأناملهم شعارات إسقاط النظام”، يعود زرادشت بالذاكرة إلى تلك الفترة التي شكّلت بداية الأمل لدى الشعب السوري، وشهدت على أوّل انتفاضة شعبية جامعة في التاريخ المعاصر لسوريا، شاركت فيها مدن وقرى على امتداد الجغرافيا السورية.
زرادشت محمد، العضو في حزب “يكيتي” الكردي، كان من الشباب الذين شهدوا على انطلاق الحراك الثوري السلمي في محافظة الحسكة، الأمر الذي يعتبره نتيجة طبيعية لاستمرار حالة القمع والاستبداد وخنق الحريّات خلال فترة حكم حافظ الأسد، وممهدًا لانتقال هذا الحراك إلى كافّة المناطق السورية، ومنها محافظة الحسكة، حيث توجد نسبة كبيرة من السكان الكرد.
آزادي وحرّية.. حين كانت الثورة فسحة “وطنيّة”
بالنظر إلى تاريخ العمل السياسي لتلك المحافظة، يمكن القول إن انخراط جزء من شبابها في الثورة السورية أمر طبيعي ومرتبط بعقود من معارضة النظام السوري، مارستها الأحزاب الكردية خلال القرن الماضي بشكل سرّي وعلني، واختبر العاملون فيها قمع النظام، وذاقوا مرارة معتقلاته، فكانت الذاكرة السوداء التي يحفظها الكرد تجاه النظام كفيلة بجعل القامشلي والحسكة وعامودا من أولى المدن التي خرج شبابها إلى الساحات.
خارج الحسكة، وفي المدن السورية الكبرى وجد الشباب الكردي نفسه في ساحات الجامعات، يهتف “حرّية” إلى جانب المتظاهرين، وحين يريد أن يترجمها إلى الكردية يهتف الجميع “آزادي”، ويشهد حيّ ركن الدين الدمشقي وحي الأشرفية بحلب أنّ الصوت الكردي في الثورة السورية كان ملهمًا وداعمًا ومكملًا لصرخات المتظاهرين.
ورغم أنّ الحراك الكردي المناوئ للنظام قبل الثورة اتخذ في الغالب صورة العمل الحزبي، إلّا أنّ الشباب الكرد الذين تظاهروا في الشوارع، بحثوا عن أشكالهم التنظيمية الخاصّة، في ظل “موقف سلبي” اتخذته غالبية الأحزاب، فنشأت التنسيقيات المحلّية التي لعب دورًا مهمًا في تنظيم المظاهرات وتوحيد صوت الشباب.
تنسيقيات منطقة الجزيرة، وتنسيقة عفرين، وتنسيقيات الأحياء الكردية في حلب ودمشق، كانت أشبه بشبكة تجمع الشباب الكردي بشكل دوري، وتسعى إلى توحيد حراكه، وبحسب العضو في تنسيقية “تآخي الكردية”، شيرو علي، فإنّ “اتحاد تنسيقيات الشباب الكرد” عقد اجتماعات عدّة في مدينة القامشلي للممثلين عن التنسيقيات الكردية المختلفة.
ولم تكن شبكات التنسيق الكردية منعزلة عن باقي التنسيقيات في سوريا، ويؤكّد ذلك أسماء الجُمَع الموحّدة في كافة المناطق السورية، “الحرائر” و”آزادي” و”صالح العلي”، وغيرها من الجُمَع التي عكست مدى التواصل اللوجستي والمعنوي بين الشباب السوري.
كما سجّلت التنسيقيات أعددًا كبيرة من المتظاهرين، وصلت في بعض الجمع إلى نحو 60 ألفًا في مختلف مناطق المحافظة، لتصبح مظاهرات القامشلي والحسكة من كبرى المظاهرات على الأراضي السورية.
وعلى الرغم من اندفاع الشباب الكردي ورغبته الجامحة بالحرية، إلّا أنّ ردّ فعل النظام كان “في عامودا كما في دوما”، دون رحمة، وقوبل المتظاهرون بالرصاص والاعتقال، وخسروا عشرات الشبان، حتى بدأ السكان “يخافون عند اندلاع المظاهرات الكبيرة في القامشلي أو في الحسكة، الأمر الذي سيجلب معه مهاجمة من النظام حتمًا”، وفق ما يؤكّده الصحفي السوري باز البجاري.
ثم ما لبثت حالة التنسيق الشبابية، أن انخرطت في هيئة جديدة تحت اسم “المجلس الوطني الكردي”، الأمر الذي أفسح المجال لأولى الخلافات مع المعارضة، وفي حين كانت الحالة الثورية تخفف من حدة الخلافات، إلّا أنّ عوامل أخرى اجتمعت لإعاقة الحراك السلمي الكردي.
معارضة عدد من الأحزاب السياسية للحراك الشعبي وميلها إلى الحوار مع النظام السوري، كان أشبه بوضع العصي في العجلات، وشكّلت تحذيرًا من مستقبل لن يمنح السلمية حقّها، وسيفتح باب السلاح لينهك حراك الكرد ضمن الثورة السورية.
“قبل انخفاض وتيرة الحالة السلمية وتحوّل الثورة إلى العسكرة كان لدينا أمل بحالة تضمن سوريا المستقبل”، يقول الصحفي باز البجاري، ورغم أنّ هذا الأمل فقد بريقه، إلّا أنه لا يمكن أن ينعدم، وقد تكفي استعادة الحالة الأولى والهتاف الأول، لعودة حالة وطنية أنهكتها السياسة والسلاح.
الكرد وانطلاقة الثورة.. رحلة حرّية قصيرة أنهكتها السياسية والسلاح
ضمن أي تقرير صحفي أو بحث يستطلع وضع الكرد في الثورة السورية، يبدأ الكاتب بالإشارة إلى عنصرين أساسيين مثّلا الكرد منذ عام 2011 وحتى الآن، وهما “المجلس الوطني الكردي”، و”حزب الاتحاد الديمقراطي”، كقطبين يختلفان في الاتجاهات والمواقف تجاه الثورة والنظام، فضلًا عن اختلافهما في الرؤية حول القضيّة القوميّة.
الوصول إلى المرحلة التي أًعلن فيها هذا الفرز والتصنيف في الشارع الكردي سبقته فترة يمكن أن يُطلق عليها “ربيع ثوري”، حين كان الشباب الكردي في الشارع هو صاحب الصوت الأعلى، وكانت القضية “الوطنية” تستدعي ترفّعًا عن الخلافات والانقسامات العميقة التي وسمت الحركة السياسية الكردية منذ انطلاقة الحزب الكردي الأول عام 1957.
وإن لم يكن هذا الربيع حكرًا على الكردي، وكان صفة عامة صبغت الشارع السوري خلال الأشهر الأولى للثورة، إلّا أنه في الحالة الكردية كان أكثر تميزًا بالنظر لما سبقه من تفتت سياسي مهّد أرضية خصبة لما سيلحق به من انقسام عميق، وحالة من التسليح التي زادت من ضبابية الرؤية.
فرصة الثورة
بالنسبة للشباب الكردي الذي عاين أخطاء الجيل الذي سبقه على المستوى السياسي، وسمع عن تاريخ أمني للنظام السوري، فإنّ المشاركة في الثورة السورية عام 2011 كانت رد فعل تلقائيّ، ارتبطت في الوقت ذاته بالرغبة في الانتصار للمظلوم والوقوف بوجه الظلم.
ويرى الصحفي السوري، عبادة كوجان، أنّ “الحراك الكردي واكب الثورة السورية من منطلقين، الأول هو الحالة العامة التي شهدتها سوريا في ظل الربيع العربي، ومطالب الحرية وبناء دولة ديمقراطية تصون الحريات، والثاني من منطلق المظلومية الكردية في عهد حافظ الأسد الأب والابن، وحرمان الكرد من أبسط حقوقهم كالجنسية السورية، وما ولد ذلك من احتقان كان سببًا في اندلاع أحداث عام 2004، والتي خلفت ضحايا ومعتقلين من الشباب الكرد”.
كما يمكن القول إنّ الثورة أتاحت للشباب الكرد فرصة لاختبار الحالة الوطنيّة والانخراط بأكثرية تشكّل حاضنة قوية ومتينة، الأمر الذي لطالما حرموا منه خلال أعوام من النضال السياسي لإثبات هويّة قومية، جعلتهم في مصافّ الأقلّيات دائمًا.
تنظيم شبابي.. ودور سلبي للأحزاب
بعد انخراط جزء كبير من الشباب الكردي في صفوف الحراك الشعبي، كان لا بد من إدارة تنظيمية يمكن أن تكون مظلة جامعة يتحرك الشباب تحتها بحرية دون أن تفرض سلطة ما عليهم، فكانت هذه الإدارة من صلب الحراك، وكما أغلب المناطق السورية، اتخذت شكل التنسيقيات التي سينضوي أغلبها فيما في “المجلس الوطني الكردي”.
مقابل الفعالية الشبابية الكبيرة، لم تكن الأحزاب بذات المستوى، وحمل غالبيتها موقفًا مترددًا تجاه الحراك الثوري، حسبما أشار عضو لجنة العلاقات الخارجية للمجلس الوطني الكُردي والقيادي في حزب “يكيتي”، سليمان أوسو، في لقاء مع عنب بلدي، مضيفًا أنّ نظرة الأحزاب المتباينة تجاه الثورة جاءت كنتيجة لموقفهم من النظام السوري، وكيفية إحقاق الحقوق الكردية.
ويرى الكردي رئيس تنسيقية الحسكة الموحدة سابقًا، ميرال بروردا، أنه مع تنامي الدور الكبير الذي لعبه الشباب الكردي في تقوية الحراك، والتراجع الكبير للتأثير الحزبي على الشارع الكردي، برزت خطورة هذه النخب الشبابية، ما دفع بالتنظيمات السياسية لاتخاذ قرارات لمحاصرة هذا المد والدور.
وأشار بروردا إلى أنّ الأحزاب السياسية سعت إلى تشويه صورة الشباب الكرد ونخبهم القيادية، وكانت تمارس إلى جانب الاعتقالات حملات ممنهجة لاتهامهم وترهيبهم.
أمّا أوسو فيؤكّد أن بعض الأحزاب حملت موقفًا أكثر إيجابية كحزبه “يكيتي” الذي “أسهم بتعزيز الحراك الشبابي، وذلك بسبب القاعدة الشبابية الواسعة والثقة المتبادلة”، موضحًا أنّ “عددًا من قادة الحزب ساهموا بتنظيم الاحتجاجات، وكنا نتعرض للانتقادات من الأحزاب الكردية الشقيقة بسبب موقفنا”.
كما كان لحزب “المستقبل” بقيادة مشعل تمو، دور بارز أيضًا في دعم هذا الحراك الشعبي، والحشد للمظاهرات ورفع المستوى الحماسي في الشارع الكردي خاصّة، والشارع الثوري في عموم سوريا.
الكرد على امتداد الشارع السوري
بالحديث عن الحراك الشبابي الثوري فإنه من الإجحاف حصر الظهور الكردي في محافظة الحسكة، إذ أثبت الشباب الكردي وجوده بداية الثورة في كل الساحات، وفي المدن الرئيسية، فكان حيّ ركن الدين في العاصمة دمشق المعروف بـ “حي الأكراد” من أوائل المناطق التي ثارت في دمشق، كذلك حيي الأشرفية والشيخ مقصود في حلب، كما ساهم كرد مدينة عفرين بتفعيل هذا الحراك داخل مدينة حلب.
الناشط الكردي، شيرو علو، تحدّث لعنب بلدي عن النشاط الثوري الذي شارك فيه بين مدينتي عفرين وحلب، والشكل التنظيمي الذي اتخذه ذلك الحراك “اجتمعنا في شهر حزيران من 2011 في حيّ الأشرفية بحلب، وكنا قرابة 40 شابًا من عفرين وعامودا وكوباني والقامشلي، كما كان غالبية الشباب الحاضرين من عفرين، وعقب الاجتماع تقرر أن يتم نقل النشاط إلى مدينة حلب وتكون مركز دعم الناشطين في عفرين”، ورغم أنّ الاتفاق لم يتم إلا أنّ مجموعة من الشباب أسسوا في حلب “تنسيقية التآخي الكردية”.
مع تنامي الدور الكبير الذي لعبه الشباب الكردي في تقوية الحراك، والتراجع الكبير للتأثير الحزبي على الشارع الكردي برزت خطورة هذه النخب الشبابية ما دفع بالتنظيمات السياسية لاتخاذ قرارات لمحاصرة هذا المد والدور |
على الضفة الأخرى.. أحزاب تدرس الحوار مع “القاتل”
بينما كانت التنسيقيات الكردية تجتمع في مناطق عدّة من سوريا بهدف توحيد الجهود، كانت مجموعة من الأحزاب الكردية تجتمع لبحث إمكانية الحوار مع النظام السوري، وبدوره لم يتأخّر النظام في الدعوة إلى حوار، ففي حزيران 2011 أرسل بشار الأسد طالبًا لقاء الأحزاب في دمشق.
بين صدّ وردّ وقبول ورفض لم تلتقِ الأحزاب الكردية برأس النظام السوري، رغم أنّ أحزابًا عدّة عبرت عن رغبتها بالتقرّب من النظام، ويشير رئيس حزب “اليسار الديمقراطي الكردي” في سوريا وعضو الائتلاف السوري عن المجلس الوطني الكردي، شلال كدّو، أنّ الأحزاب التي انضوت في المجلس كانت معارضة للنظام قبل الثورة، وكانت ترفض الحوار معه، إلا ضمن أطر المعارضة وبرعاية دولية، وذلك ما حدث فيما بعد.
وحول أسباب الرفض، اعتبر القيادي في حزب “يكيتي” سليمان أوسو، أنها تتلخّص في عدم ثقة الأحزاب بجدية دعوة النظام، وتشكيكها بمصداقيته في التعامل مع القضية الكردية، فضلًا عن أنّ المظاهرات كانت قد عمت سوريا والنظام واجهها بقمع، فما كان من الشارع إلا أن رفض حوار الأحزاب، وكانت الاستجابة لصوت الشارع ضرورة ملحة كونه الذي يمنح الشرعية للأحزاب.
أما ميرال بروردا فيرى أنّ أسباب رفض الأحزاب لقاء الأسد تتجسّد في “يقينها أن سوريا مقبلة على تغيير كامل وشامل باندلاع الحراك الشبابي المناهض للنظام السوري، وأنها لن تلعب أي دور في مستقبل سوريا فيما لو تم التحالف مع النظام السوري”، وذلك ما دفعها لاتخاذ القرار “بالانضمام للثورة لكن بطابع العزلة الكردية عن المنحى العام للثورة، أي ممارسة سياسة النأي بالنفس والانخراط حسب المصالح السياسية مع الجهة التي ستكون الأفضل”.
المجلس الوطني.. حامل سياسي لحراك شعبي
تشكّل المجلس الوطني الكردي بتاريخ 26 تشرين الأول، 2011، في مدينة أربيل العراقية، برعاية رئيس حكومة إقليم كردستان العراق، مسعود البارزاني.
بدايةً حظي المجلس بدعم الأحزاب الكردية التي كانت منضوية في السابق تحت لواء “الجبهة الديمقراطية الكردية”، والتي كانت تضمّ أحد عشر حزبًا سياسيًا كرديًا، ويؤكّد رئيس حزب “اليسار الديمقراطي الكردي” شلال كدّو أنّ العديد من التنظيمات الشبابية انضمت إلى المجلس عقب تأسيسه، في الوقت الذي كانت تقود فيه الحراك ضمن مختلف القرى والمدن ذات الغالبية الكردية.
كما تحوّل المجلس إلى مظلّة لجميع التنسيقيات وفعاليات المجتمع المدني، وكان يسعى إلى تأسيس جسم يوحّد كلمة الكرد ويساهم في انخراطهم ضمن صفوف المعارضة كممثلين عن جزء من الشعب السوري.
وربما أسهمت القاعدة الشبابية في منح المجلس شرعيّة أكبر، وأضفت عليه صبغة الراعي لحراك الشباب من جهة، والقوة السياسية التي يمكن أن تترك وزنًا ضمن الحياة السياسية السورية الجديدة، التي كانت ملامحها تتشكل حينذاك مع تأسيس “المجلس الوطني السوري” و”الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة”.
عقَبة “الاتحاد الديمقراطي” وبداية نهاية السلمية
لم يكن “حزب الاتحاد الديمقراطي” (بي يي دي) يخفي محاولات تقرّبه من النظام السوري منذ اندلاع الاحتجاجات السلمية، كما لم يرفض محاورة الأسد، ومع تشكيل “المجلس الوطني الكردي” أبدى الحزب رغبة في الانضمام إليه، إلّا أنّ الشروط التي فرضها حالت دون ذلك، وتحوّلت العلاقة بين الطرفين فيما بعد إلى صراع سياسي ومحاولة فرض نفوذ قادت الحركة السياسية الكردية إلى مزيد من التشرذم.
وكان “بي يي دي” أسس “مجلس شعب غرب كردستان” وضمّ فيه جميع المنظمات التابعة للحزب، لينقسم الحراك الثوري الكردي إلى قسم يرفع علم الثورة وينادي بشعاراتها، وقسم يرفع شعارات حزب “العمال الكردستاني”.
لم يكن الصوت الشبابي الكردي قد احتفظ بقوّته مع بداية العام 2012، نتيجة التخبط السياسي، ونتيجة تحوّل الثورة إلى التسليح، كما لم يستطع “المجلس الوطني” أن يحافظ لمدة طويلة على ثبات بنيته التنظيمية من جهة، وعلى علاقة سليمة مع المعارضة من جهة أخرى.
وفي تمّوز من العام ذاته أصبحت السلطة الفعلية في المناطق الكردية، لـ “الحزب الديمقراطي الكردي”، بموجب “الاتفاقية الأمنية” بين قيادات حزب “العمال الكردستاني” والنظام السوري، وتسلمت قوّات الحزب المراكز الأمنية والعسكرية في المناطق ذات الغالبية الكردية.
تركيا و”الأسلمة”.. كيف ابتعد الكرد عن الثورة السورية؟
يرى الكاتب السوري، محمد رشدي شربجي، أنّ دخول “الأسلمة” على خطّ الثورة السورية كان أحد أبرز أسباب ابتعاد الكرد عن الثورة، إلى جانب علاقة المعارضة بتركيا مقابل موقف الكرد منها بسبب الصراع التاريخي بين الكرد والأتراك.
ويشير الكاتب إلى غياب الإسلام السياسي عن الساحة السياسية الكردية في سوريا مقارنة بباقي الدول التي يتوزع فيها الكرد، مستثنيًا بذلك تجربة الشيخ معشوق الخزنوي كإسلامي كردي، على الرغم من أنه لم يؤسس جماعة أو حزبًا سياسيًا.
ويميل شربجي إلى الرأي القائل بتأثير نشأة التجمعات الكردية داخل سوريا على غياب الأحزاب الكردية الإسلامية، فالكثير من كرد سوريا جاؤوا من تركيا نتيجة القمع، ما دفع إلى “تدفق عشرات آلاف المهاجرين إلى المناطق السورية”، ويضيف أنّ “تلك الهجرات أُتبعت بموجات أخرى مع النهضة الاقتصادية التي حصلت في الحسكة وازدهار موسم القطن فيها، لعدة سنوات”.
وبحسب شربجي فإنّ الكرد الذين قدموا من تركيا أسسوا لفترة النخبة السياسية الكردية كما حملوا مطالبها، ويضرب مثالًا، أنّ “أول حزب سياسي كردي تشكل عام 1957 كان رئيسه نور الدين ظاظا وهو كردي تركي من مدينة ماردين، كذلك السيد عثمان صبري وهو أيضًا من تركيا وغيرهم كثر”.
ذلك الأمر جعل السيطرة الاجتماعية والثقافية على كرد سوريا بيد كرد تركيا، فـ “الحركة الكردية السياسية في تركيا حاربت الأتاتوركية، ولكن تأثرت بها أيضًا، ومن هذا التأثير الحساسية السياسية من الإسلام، والمضي على خطى الغرب”.
ويدلل شربجي على كلامه بأنّ كرد سوريا يكتبون بالحرف اللاتيني، على عكس كرد العراق الذين ما زالوا يكتبون بالحرف العربي، مشيرًا إلى أنّ كرد سوريا بدأوا استخدام الحرف اللاتيني بعد تأليف الأمير جلادت بدرخان في دمشق لكتاب “قواعد اللغة الكردية، اللهجة الكرمانية”، والذي يقول في مقدمته إنه ألفه بناء على طريقة أتاتورك في استبعاد الحرف العربي من اللغة.
التأثّر الكبير للكرد في سوريا بالأتاتوركية جعلهم ضدّ “تركيا الإسلامية”، ومع صعود الدور التركي في دعم المعارضة السورية أخذ الكرد يحتجّون على تلك العلاقة، وفي حين اتخذت هذه الحساسية منحىً قوميًا تاريخيًا ومنحىً فكريًا عقائديًّا فإنّ نتائجها انعكست في تراجع الدور الكردي الإيجابي ضمن الثورة السورية في وقت مبكّر من عمرها.
مشعل تمّو.. كاريزما المناضل التي تجيد صناعة “الرمز”
تستطيع “الكاريزما الوطنية” التي يتركها أيّ إنسان رفع صوته بوجه الظلم أن تجعل لثورة ما تاريخًا، أو مجموعة من التواريخ التي تفسح فيما بعد مجالًا لتوثيق مفاصلها، وانعطافاتها، ومحاولات اغتيالها.
وبالنظر إلى حالة المناضل السوري الكردي، مشعل تمو، فإن لحظة اغتياله، التي جاءت في وقت مبكر من تاريخ الثورة السورية، لم تكن توثيقًا لمرحلة من مراحل النضال السلمي فحسب، بل كشفت عن افتقار الثورة الوليدة لمفهوم “الرمز”، وكشفت في الوقت ذاته عن كثرة أعدائها، وصعوبة تجميع أطرافها.
ولد مشعل التمو، في مدينة الدرباسية بمحافظة الحسكة عام 1957، ولم ينتظر وقتًا طويلًا حتى أدرك أنّ طريق العمل السياسي قد كُتب له، إذ انضمّ إلى صفوف حزب “الاتحاد الشعبي الكردي” وهو لم يبلغ العشرين من عمره بعد، هناك حيث سيمضي أكثر من عشرين عامًا يختبر فيها العمل السياسي ومرارة الليالي في أقبية سجون النظام السوري.
“أردوان تيمور” كاسم مستعار، لم يكن ليخفي هويّة مشعل تمو الحقيقية، بل كانت جميع المقالات باللغتين العربية والكردية التي ينشرها في الصحيفة التابعة للحزب أو في منابر عربية وكردية متنوعة، تقرأ في أروقة النظام، وتزيد فرص اعتقاله.
ولم يكن الأمر ليثني مشعل تمّو عن العمل السياسي والثقافي، بل أردفه عقب انفصاله عن حزب “الاتحاد الشعبي الكردي” بالعمل في مجال المجتمع المدني والأدب، وبرزت قدرته على التأثير من خلال تجمعات عدّة أسسها وترأسها وشارك خلالها ناشطون معارضون لنظام حافظ الأسد، ومن ثمّ بشار الأسد، في التعبير عن أنفسهم.
فترة ما سمي بـ “ربيع دمشق” أفسحت لمشعل تمو مجالًا للتعبير بحرية عن أدواته للعمل الثوري، إذ كان حينها مشاركًا في “إعلان إحياء المجتمع المدني في سوريا” مع بعض الناشطين مثل علي العبدالله وميشيل كيلو، كما أسس “منتدى جلادت بدرخان” الثقافي، الذي تمكّن من خلاله من طرح مواضيع متنوعة تمسّ الشؤون السورية، وتهمّ الكرد في سوريا.
ولم يلبث ذاك الربيع طويلًا حتى تحوّل إلى شتاء عاصف، غادر إثره مشعل تمّو سوريا، هربًا من الملاحقات الأمنية التي طالت أعضاء المنتديات المؤسسة حديثًا، ليعود بعدها متخفيًا إلى سوريا، باحثًا عن أدوات جديدة للنضال الوطني.
وكانت تلك العودة مبنية على “نوعين من القيم” التي كان مشعل تمّو يتحدّث عنهما، “الأول ما اكتسبته من عائلتي وأبي الذي أطعمني كبرياء وقوة إرادة وعزمًا وتصميمًا وأن الحياة هي موقف، والثاني ما اكتسبته من الوسط المحيط بي أثناء الشباب وفترة الجامعة وكانت فترة تكوّن الشخصية، وإرساء الجذر الثقافي لها”.
برز اسم مشعل تمو في “انتفاضة 2004” في القامشلي، إلى جانب عدد من المثقفين الكرد، ويشهد له أنّه كان يبحث حينذاك عن الهوية الوطنية المجرّد من الأيديولوجيات الحزبية والانتماءات الضيقة، ويؤمن بتعميم مفهوم وطني جامع يستوعب الأقليات والتنوع الإثني والطائفي في سوريا، المفهوم الذي قد يكون أحد أسباب الشروخ في علاقته مع قادة الأحزاب الكردية.
ولم يكن مشعل تمو مهملًا لحسّه الأدبي، ونزعته الثقافية، في الوقت الذي كان فيه منهمكًا في الإعداد لإطلاق حزبه، بل كان ينتج القصص القصيرة، والمقالات الأدبية والعلمية، وينشرها باللغتين العربية والكردية.
أمّا حزبه الذي سعى ليصبّ فيه جهد 48 عامًا من العمل الدؤوب، فصبّ فيه أيضًا أمله وإيمانيه بضرورة التغيير حين أطلق عليه اسم “المستقبل”.
غير أنّه في ظل نظام الأسد “كل من يدعو إلى الديمقراطية يُعتبر مجرمًا”، وبذلك المعنى كان مشعل تمّو “مجرمًا” يستحقّ الاعتقال والمحاكمة، وإن كانت تهمته الحقيقية هي محاولات نشر الثقافة والمشاركة في الحياة السياسية، إلّا أنّه سُجن عام 2009 بتهمة “التحريض على الاقتتال الطائفي بتسليح السوريين، وبحملهم على تسليح بعضهم ضد بعضهم الآخر، فضلًا عن تغيير كيان الدولة سياسيًا واقتصاديًا”.
بعد الإفراج عنه في بدايات الثورة السلمية، خرج مشعل تمو ليرى النور ينبع من كل أرجاء سوريا، فما كان منه إلّا أن اندفع في مقدمة المتظاهرين، ونادى بهم أن “ابصقوا في وجه جلاديكم”، وهتف بإسقاط النظام، وصرخ في وجه بعض السياسيين الكرد الذين اتخذوا موقفًا سلبيًا من الثورة.
وكان الالتفاف الشعبي حول شخصيّة تمو يزداد يومًا بعض يوم، إلى أن أصبح “مناضلًا وطنيًا” في نظر شريحة من السوريين، وبينما كان النظام يزداد سخطًا عليه، كانت بعض القيادات الكردية تسترجع أحقادًا ماضية تجاه مشعل، الذي لم يتوان عن انتقاد أخطائها، واتخاذ منهج لا يساير أهواءها.
كما كان مشعل تمو مناوئًا لرغبة قادة الأحزاب الكردية في الحوار مع الأسد حين واجههم برفض قاطع: “لا لحوار مع نظام يسفك الدم، لا لحوار مع نظام فقد شرعيته، لن نتحاور معه أبداً، نرفض الحوار مع الأجهزة الأمنية، نرفض الحوار مع الدبابة، نرفض الحوار مع الرصاص”.
تلك الشعارات، كانت ترجمة حرفية لنضال مشعل تمو على الأرض، إذ كان يعمل على دعم أولى الأشكال التنظيمية للثورة السورية، وشارك عبر الإنترنت في “مؤتمر الإنقاذ” الذي عُقد بتاريخ 16 تموز 2011 في اسطنبول، كما كان تيار “المستقبل” الذي يقوده من مؤسسي المجلس الوطني السوري.
خلافاته مع أكثر من جهة، أوصلت إلى عقر داره تهديدات عدّة بالاغتيال، ولم يكن مشعل تمّو يأبه لها، إلى أن جاء يوم السابع من تشرين الأول 2011، حين دخل أربعة ملثمين إلى مكان إقامته في مدينة القامشلي، وأطلقوا الرصاص عليه وعلى ابنه مارسيل والناشطة المدنية زاهدة رشكيلو، ففارق الحياة على الفور، ونجا ابنه وزاهدة من الموت رغم إصابتهما.
اغتيل تمّو، ولم يتمّ حتى الآن تحديد الجهة التي نفّذت الاغتيال، على الرغم من ترجيح دور النظام السوري، اغتيل وهو يؤمن بما كسبه من نضال 54 عامًا.. “أنا ربحت كرامتي وإنسانيتي وثقة الجيل الشاب من أبناء شعبي، وما خسرته من متاع الدنيا لا يشكل بالنسبة لي أي قيمة، بل هي سلاسل العبودية، وهي سلاسل ليست فقط أمنية بل تتعلق بالموروث الاجتماعي”.