هناك عالم يتسع ويتجذر بعيداً عن سجالات السياسة المحلية، من توقيع سلسلة الرتب والرواتب، إلى التطبيع مع النظام السوري ومواجهة تنظيم داعش في عرسال. سُمعة لبنان كبلد محكوم بالفشل والفساد وغارق بالنفايات وخاضع لهيمنة مليشيا، يُضاف اليها اليوم تحوله لأكبر منتج لحبوب الكبتاغون في المنطقة، وأحد أبرز مُصدريه للعالم.
بالأمس، نشرت صحيفة ”دي تسايت“ الألمانية تحقيقاً مطولاً عن تجارة الكبتاغون وعلاقته بالحرب السورية، ركز على لبنان، وتحديداً منطقة البقاع، مصدراً رئيسياً للتصنيع. حتى التجار السوريين لهذه الحبوب في تركيا، حصلوا على بضاعتهم من لبنان.
ولم يأت التقرير الألماني وحيداً، بل جاء ضمن سلسلة مواضيع وتحقيقات متواصلة منذ شهور، وسبقه بيومين تقرير لصحيفة ”ذي صنداي تايمز“ البريطانية عنوانه مخدر الشجاعة الكيماوية صُنع في لبنان، الكبتاغون يُغذي انتحاريي تنظيم داعش في سوريا”.
قبل أيام من التقرير الألماني، وتحديداً يوم الثلثاء الماضي، أعلنت المديرية العامة لأمن الدولة اعتقال أحد التجار الرئيسيين لحبوب الكبتاغون في البقاع، ولقبه ”الأسود“، وفي حوزته عشرات الأكياس الموضبة للبيع. لكن اللافت في خبر الاعتقال، الاعتراف بأن التاجر المعتقل جزء من شبكة محلية ما زالت عناصرها فارة. وفي الثاني من آب الجاري، أي قبل أسبوع تماماً من الكشف عن اعتقال ”الأسود“، أعلنت المديرية العامة للأمن الداخلي ضبط شاحنة ميتسوبيشي في ضهر البيدر كانت في طريقها من بعلبك الى بيروت، وعلى متنها 366 برميلاً بينها 228 مملوءة بـ4 ملايين حبة كبتاغون، علاوة على مواد كيماوية لتصنيع الحبوب.
والخطير في هذه العمليات، أن وتيرتها باتت مرتفعة بحيث قد تتجاوز قدرة أجهزة الأمن اللبنانية على مكافحتها بالشكل المطلوب. على سبيل المثال، أعلنت السلطات اللبنانية أنها أحبطت في عملية مشتركة مع السلطات المعنية في السعودية، محاولة لتهريب 6 ملايين حبة كبتاغون الى المملكة في حزيران الماضي. لكنها فشلت في وقف 135 كيلوغراماً من هذه الحبوب المخدرة (350 ألف حبة) من الوصول الى مطار باريس. السلطات الفرنسية أوقفت الشحنة، ووجهتها جمهورية التشيك. لكن كيف نجحت هذه الكميات من تجاوز اجراءات التفتيش والأمن اللبنانية، والوصول الى مطار باريس؟
صناعة الكبتاغون وتهريبه ازدهرا بشكل واسع بعد سنتين على اندلاع الأزمة في سوريا. وبحسب تقرير صحافي أعده جيرمي عربيد العام الماضي، شهد لبنان نمواً كبيراً في انتاج الكبتاغون، بدليل الارتفاع في أعداد الحبوب المُصادرة منذ عام 2013 مقارنة بالعام السابق. خلال عام 2013، ضبطت السلطات اللبنانية 11,7 مليون حبة مقارنة بـ680 ألفاً قبل سنتين فقط. بحسب تقرير عربيد أيضاً، فإن الرقم ارتفع بشكل دراماتيكي الى 25,4 مليون حبة عام 2014، تبلغ قيمتها الاجمالية 151,85 مليون دولار أميركي (6 دولارات للحبة الواحدة، وسعرها يصل عادة الى 10 و20 دولاراً في الخليج). ويعود هذا الارتفاع الملحوظ الى حاجة الفصائل والمليشيات الموالية والمعارضة في سوريا، وبينها القوى الاسلامية المتشددة، إلى هذه الحبوب لمُساعدة المقاتلين على مُقاومة الخوف والتردد خلال المعارك.
لكننا لو تأملنا قليلاً بأثر نمو هذه الصناعة، لوجدنا احتمالات سوداوية أهمها تحول مافيات المخدرات الى أصناف أخرى من الجريمة، سيما مع تزايد الضغوط الأمنية عليها نتيجة العقوبات الأميركية والدولية. وليس مبالغة القول إن اتساع هذه التجارة واستقطابها مزيداً من المجرمين والمدمنين الضحايا، أحد أبرز أسباب ارتفاع وتيرة الجرائم بأنحاء لبنان، وفي البقاع خصوصاً، إذ حصدت عشرات الأبرياء خلال شهور، وقد تسلبنا ما تبقى من أمننا.