المدخل الأميركي والروسي للحل السياسي في سورية هو الحرب على الإرهاب. هذا ما يتحقق حينما يقال إن المرحلة الانتقالية ستكون تحت قيادة الرئيس بشار الأسد. أي أن كل الانتقادات السابقة للنظام السوري، ومنذ العام 2011، كانت بقصدٍ وحيد، وهو الهيمنة على الثورة وتطويعها، وجعلها مجزرةً حقيقيّة لثوارها ولحاضنتهم الشعبية، وبما يدفع قياداتها إلى الالتحاق بأميركا أو روسيا أو بلدان إقليمية متعدّدة.
دار نقاش تناول الهيئة العليا للتفاوض أخيرا، وأن وزير خارجية السعودية، عادل الجبير، قال لهم: الأسد باقٍ وعليكم التفاهم مع منصتي القاهرة وموسكو، وأن كل الأمر بيد روسيا؛ ربما لم يقل هذا الكلام بهذا الوضوح، وربما قاله، وقد تكون لديه نيات معاكسة له، ولكن ما هو أكيد أن الرياض طالبت الهيئة بالتوسعة، وبضم المنصّتين المذكورتين، واللتين تؤكدان أولويّة الحرب على الإرهاب، وتأجيل مصير الأسد، بل وحقه الطبيعي بالترشح للرئاسة، كونه مواطناً سورياً حالما تنتهي المرحلة الانتقالية بقيادته. يتفق هذا الدور السعودي مع الرؤية الأميركية والروسية، وبوضوحٍ أكبر هو دورٌ قديمٌ، ومنذ أن وافقت السعودية والدول الإقليمية على عدم إيصال مضادّات الطيران للفصائل الحرّة، وبالتالي النظام باقٍ، والمعركة محدّدة بأنّها ضد الإرهاب، وعلى المعارضة أن تكون شريكةً في الحرب “المقدسة” هذه.
بدأ موقع هيئة التفاوض التي رفعت السقف عالياً، باعتمادها على نتائج جنيف1 بالتحديد، وبقية القرارات الدولية المُلزمة بتشكيل هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات، يتغير مع مسار أستانة ثم مسار عمّان، والنقاش يشمل كذلك منصة القاهرة، وبالتالي، فهي مطالبة بالخضوع الكامل، وإلا فإن مسار المفاوضات سيتقدم بدونها، كما صُرّح مراراً وتكراراً، وما سُرّب عن الجبير يصب في هذه الساقية.
يبدو أن المسألة السورية في طور النهاية، ووفق تقاسمٍ روسي أميركي لها. وهنا ليس من الصحيح القول إن الأمر كله بيد روسيا، وإن أميركا لم تكن شريكاً ولن تكون. لا.. أميركا هي السبب بإطالة الحرب في سورية واستنزافها بالكامل، وكانت تعمل كذلك على إضعاف كل من تركيا وايران ومليشيات الأخيرة، ويشكل كذلك دعمها حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) مؤشراً واضحاً على تخريبٍ متعمّدٍ لسورية، وهذا كموقف يصنّف ضد النظام والمعارضة معاً، ومن أجل تخريب البنية الاجتماعية السورية، وتعزيز الانقسامات الماهوية فيها، وفقاً لصراع القوميات والطوائف والمناطق.
القواعد العسكرية الأميركية ودعم الحزب الكردي ومجموعات سورية عربية صغيرة هنا وهناك، والإشراف على اتفاق الجنوب، ومحاولة الهيمنة على كل القرارات المتعلقة بسورية بالشراكة مع الروس، وذلك كله يقول إنه كانت لدى الأميركان، ومنذ بداية الثورة، استراتيجيتهم، والمتمثلة في تخريب الثورة وتدمير سورية وإنقاذ النظام؛ وهذا ينسجم مع سياسات أوباما وترامب، وليس فقط الأوّل كما يُشاع.
عملية تحويل الثورة إلى حربٍ بين جهاديين، وتهميش كل ما هو وطني في هذه الثورة، هو الذي مَكّنَ روسيا وأميركا من التحكّم الكامل بالشأن السوري، والتدخل باسم الإرهاب والحرب المستمرة عليه. وبذلك أكلموا تدمير المدن السورية، وتهجير السوريين، والحلقة الأخيرة ستكون إكمال تدمير كل من الرقة ودير الزور، وربما إدلب.
عملية تحويل الثورة إلى حربٍ بين جهاديين، وتهميش كل ما هو وطني في هذه الثورة، هو الذي مَكّنَ روسيا وأميركا من التحكّم الكامل بالشأن السوري، والتدخل باسم الإرهاب والحرب المستمرة عليه. وبذلك أكلموا تدمير المدن السورية، وتهجير السوريين، والحلقة الأخيرة ستكون إكمال تدمير كل من الرقة ودير الزور، وربما إدلب.
تشتت الفصائل الوطنية، وتشوّش وعي قطاعٍ كبيرٍ منها بالأسلمة وأساطير الصراعات الدينية، وتوسّع حضور السلفية والجهادية، هو ما يدعم فكرة الغرب، ومعه روسيا، بأن لا بديل عن النظام في سورية. عدا عن تورّط المعارضة السورية بمواقف خاطئةٍ جملة وتفصيلاً، وبدءاً بقبول “الإخوان المسلمين”، ومن دون اشتراطاتٍ تؤكد دعمهم مشروعا وطنيّا لكل السوريين. وثانياً تقبلهم جبهة النصرة كونها “ضد” النظام. وثالثاً غياب الرؤية لبناء مشروع وطني، وضرورة وجود قيادة موحدة، وتقود كل الأعمال المتعلقة بالخارج. ساهمت هذه العناصر بتهميش المعارضة ذاتها، وتوسع الحركات السلفية والجهادية. وبالتالي، لم يعد هناك بديلٌ للنظام في الحرب على الإرهاب، وفي دولة مدنيةٍ وفي حماية أمن إسرائيل.
إذا صحّ أن الحرب اقتربت من وضع أوزارها، وأن هناك مرحلة انتقالية مقبلة، فيصبح خيار هيئة التفاوض أساسياً، ولكن ليس من المسموح فيه التلكؤ كثيراً، وطبعاً عليها قبول معارضي المنصات! وبالتالي، هناك قطاعاتٌ من المعارضة ستنفذ ما يُطلب منها بالتأكيد، وستصمت عن كل الكوارث التي سببتها مسارات أستانة وعمّان والقاهرة، وعن كل التباطؤ المتواصل في تطبيق هذه المسارات، والذي يتسبب بدمار وبقتل مستمر، ولا سيما في الغوطة وإدلب، وقبلهما في درعا وحمص.
مطلوبٌ من المعارضة إعادة تشكيل نفسها مجدّداً، ووفقاً للمشيئة الأميركية الروسية، والتي تأتيها مباشرة، أو عبر السعودية أو تركيا وسواها. لن تكون النهاية المحدّدة للوضع السوري لصالح الشعب السوري، ولا لصالح أهداف ثورته، ولا حتى لصالح الموالين الذين ضحّوا بالغالي والثمين لإنقاذ النظام من السقوط.
خيارات المعارضة في غاية المحدودية، وهذا يعني أنها ستنقسم بالتأكيد، وسيَرفضُ كثيرون منها الاستمرار بالعمل، وستظهر مبادراتٌ كثيرة في هذه المرحلة. وهناك بالأصل فئات كثيرة من المعارضة، رافضة كل المسارات السابقة، ولهيئة التفاوض ذاتها. مشكلتنا الكبرى في رفض قراءة الواقع، والمساهمة في إيصاله إلى تأزمه الحالي الكبير بين احتلالاتٍ وجهادياتٍ وتدخلٍ إقليميٍّ واسع وسلفياتٍ ووعي طائفي ماهوي واجتثاثي. هذه الوضعية الكارثية تنتج باستمرار أشكالاً جديدة من الحركات السياسية والثورية، ولو صحّ أن الحرب ستنتهي، وستكون هناك تغيرات أولية في شكل الحكم وضبط الجيش والأمن، أقول لو صح، فهذا سينقل سورية إلى مرحلة الصراع السياسي، وهذا لعمري أهم ما سعى إليه السوريون ليس في الأعوام السبعة السابقة، بل ومنذ تشكيل الدولة السورية، وليس فقط منذ 1963 كما يُكرس.
ربما ستكون فرصة للسوريين بالعودة إلى المطالبة بحقوقهم، وربما ستكون الفرصة متاحةً بشكل أكبر، لتشكيل معارضة فاعلة ووطنية بامتياز، وتمثيل مناطق سورية بأكملها، والابتعاد عن الصراعات الجانبية التي دُفعت سورية إليها، أي البدء بتشكيلِ هوية وطنيةٍ سورية، ومنفتحة على العالم، وتستوعب بداخلها كل الهويات القومية السورية، والمتأزمة بشكل كبير في اللحظة الراهنة.