هم بضع مئات لكنهم ملح الأرض!
… والحديث عن مثقفين لبنانيين وسوريين جمعتهم قيم الحرية والعدالة ومعاناة مشتركة من القهر والاضطهاد والأهم مبادراتهم المتعددة لإعلان موقف موحد تجاه أحداث وتطورات سياسية وأمنية تهم الشعبين، ولعلنا نتذكر بيان المثقفين ضد دخول الجيش السوري إلى لبنان عام 1976 ثم موقفهم المناهض للحرب الإسرائيلية عام 1982، وبعده تجاه ما عرف بمعارك الجبل والمخيمات، تلاه بيان لمثقفين سوريين ولبنانيين عام 2004 ضد التمديد للرئيس إميل لحود، فبيانات متواترة تدين اغتيال رفيق الحريري ثم سمير قصير ثم جبران تويني، وأبرزها ما عرف بإعلان بيروت- دمشق، دمشق بيروت، في ربيع 2006 والذي أظهر موقفاً حازماً يدعم انتفاضة الاستقلال وانسحاب الجيش السوري من لبنان رافضاً منطق العنف والاغتيال ومطالباً بتكريس علاقات صحية يفترض قيامها بين البلدين، ليصدر في أيلول (سبتمبر) 2011 مع تصاعد حراك الربيع العربي بيان يؤيد طموحات الشعب السوري في التغيير وتطلعات الشعب اللبناني بالسيادة والاستقلال ويدعو لمشرق عربي تزدهر فيه المواطنة فلا تكون غلبة لطائفة وغبن لأقلية ولا اضطهاد لجماعة أثنية ولا تمييز، تلاه في تموز (يوليو) 2014 إطلاق رؤية مشتركة ترفض الردّة الدينية والسياسية، ومحاولات تفجير حرب طائفية تدمر المنطقة، وأخيراً أصدر مثقفون سوريون ثم لبنانيون بيانين على التوالي يشجبان مناخ العداء للاجئين السوريين في لبنان ومداهمات مخيمات عرسال ومقتل عدد من المعتقلين في سجون الجيش اللبناني.
صحيح أن المثقفين اللبنانيين كانوا أقل عرضة للقمع المباشر لقاء مواقفهم المعارضة، واستمدوا بعض الأمن والأمان من أجواء الحرية النسبية التي ميزت بلادهم تاريخياً، وصحيح أن وطأة الاضطهاد كانت تقع على كاهل المثقفين السوريين المعارضين لنظام الاستبداد وسياساته، ونتذكر الهجوم السلطوي الشرس على مثقفين وسياسيين وقفوا ضد دخول الجيش السوري إلى لبنان، حيث طاولت الاعتقالات بعضهم بينما أكرهت المضايقات آخرين على الهرب والتشرد، وتكرر الهجوم السلطوي، بصورة هستيرية في ربيع 2006 عبر حملات إعلامية تطعن بوطنية مثقفين سوريين وتتهمهم بالعمالة والخيانة، لمجرد توقيعهم رؤية مشتركة مع مثقفين لبنانيين عرفت بإعلان بيروت دمشق، والنتيجة سجن عدد منهم ومحاربة آخرين بلقمة عيشهم بطردهم تعسفياً من وظائف شغلوها في الدولة لسنوات عدة.
لكن الصحيح أيضاً أن الأمر كان ينقلب إلى العكس تماماً وربما أشد، حين يتعلق الأمر بوقوف مثقفين لبنانيين في وجه النظام السوري ومناهضته، فمن ينسى اغتيال سمير قصير وجبران تويني وقبلهما عام 1980 اغتيال سليم اللوزي وتعمد تشويه أصابع يده اليمنى التي كتب بها مناهضاً القهر الأمني السوري، لتنتقل «الراية» بعد انشغال النظام بالقتل والتدمير لوأد تطلعات الشعب السوري، إلى أيادي حلفائه اللبنانيين، الذي لم يغرقوا فقط في مستنقع دعم النظام وارتكاباته، وإنما استعانوا أيضاً بأساليبه القمعية ذاتها في النيل من معارضيه ومعارضيهم، وساروا على منواله في فرض أنفسهم أوصياء على حياة الناس وخياراتهم، وتكريس تلك الأجواء المرضية التي تضع في دائرة الشك كل من يتجرأ على الاعتراض، مستسهلين سوق الاتهامات بالمروق والعمالة بحق من يبدي رأياً مخالفاً، بما في ذلك تسويغ ما يحلو لهم من الأساليب التصفوية لإقصاء الآخر المختلف وتحطيمه، تصل في بعض الأحيان إلى حد اغتياله.
ويبدو أن حدة هذه الأساليب وشدة الشتائم والاتهامات بدأت تتصاعد طرداً مع تفاقم أزمة هؤلاء الحلفاء وفي مقدمهم حزب الله، ربطاً بانكشاف أوراق الأخير المذهبية وانحسار قدرته وطنياً، ولنقل خفوت نغمته كمقاوم لإسرائيل في الدفاع عن اندفاعاته العنيفة وارتكاباته، وتالياً عجزه عن رص صفوفه التي بدأت تتصدع من الخسائر التي مني بها، ومن الحصار الذي بدأ يفرض عليه عربياً ودولياً، ويصح أن ننظر من هذه القناة إلى حملته المحمومة والمغرضة ضد أصوات لبنانية دانت تدخله الدموي في الصراع السوري ورفضت محاصرة اللاجئين على أنهم إرهابيون، متوسلاً افتعال ما سماه انتصار عرسال، لتبرير استمرار حضور سلاحه المنفلت خارج الدولة اللبنانية، والأهم لإظهار نفسه قوة لا تقهر، يحدوها تعميم القهر والخوف، لفرض ما تراه مناسباً على اللبنانيين.
والحال، ثمة أسئلة كثيرة تثار في تفسير هذا الدور الفريد والمتميز للمثقفين اللبنانيين والسوريين: هل يتعلق السبب بالتقارب الجغرافي والعلاقات التاريخية التي تربط البلدين وذاك التشابك العميق بين الشعبين في المصالح والمصير؟ أم لأن لبنان ومثقفيه شكلوا دائماً واحة للمثقفين السوريين يتنسمون عبرها هواء الحرية ويطلقون في فضاءاتها اجتهاداتهم ومواقفهم من دون خوف، وقد عزز ذلك ما خلقه وجود المقاومة الفلسطينية في لبنان من ساحة مشتركة للقاء والتفاعل وبناء التوافقات؟. أم يتعلق الأمر بقيم راسخة تجمع هؤلاء المثقفين في الاعتزاز بالحياة الديموقراطية وحقوق الإنسان وحرية التفكير والإبداع، وتالياً في مناهضة العنف ومنطق التمييز والاضطهاد، ربطاً بوحدة معاناتهم من قمع سلطوي ظالم ومزمن كان الأسوأ خلال الوجود العسكري السوري في لبنان ووصايته على الحياة السياسية والأمنية؟.
والأهم أن السبب يرتبط بدور إنقاذي مشترك آمن به المثقفون اللبنانيون والسوريون، أو بوظيفة خاصة تنطحوا لها للرد عما يستجد من تطورات ولبناء وعي نقدي يفترض أنهم أقدر المعنيين ببنائه في ظل ضعف الأحزاب السياسية أو عجز رجالاتها وترددهم، ولنقل في ظل انكشاف أزمات مجتمعاتهم والفشل البين للمشاريع السياسية والأيديولوجية في وقف التدهور الحاصل أو الإمساك بزمام المبادرة، مجاهرين برهانهم على الثقافة في حض المجتمع على التحرّر من الديكتاتورية والتخلص من القمع والاضطهاد، وفي تمكين لغة العصر ونشر قيم النهضة والتنوير، وتغذية الأمل بولادة إنسان جديد يستطيع أن يحيا ويفكر ويقاوم ذوداً عن حقوقه… إنهم بضع مئات من المثقفين، لكنهم ملح الأرض وخميرتها!.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :