نزيف العقول السورية.. من مصطفى خليفة إلى باسل الصفدي
عنب بلدي – علي بهلول
منذ سبعينيات القرن الماضي، وسوريا تشهد هجرة متنامية للعقول، وبالرغم من عدم وجود إحصائيات رسمية تعطي صورة واضحة عمّا كان يحدث لهذه الطبقة من المجتمع بين عامي 1970 وحتى 1990، بسبب تعتيم النظام السوري على القضية، فإن أعمالًا أدبية تكفلت بإعطائنا صورة نسبية عمّا كان يجري في الظلام.
فبالإضافة للمحسوبيات التي اعتمدت على الولاء لحزب البعث الحاكم أكثر من الكفاءة، وتدني التقدير المادي والمعنوي لجهود العقول السورية، تبرز على الواجهة الأوضاع الأمنية التي هددت سلامة المبدعين السوريين، وإن كان هذا جميع السوريين في واقع الحال.
فها هي رواية “القوقعة” الشهيرة من أدب السجون، تخبرنا على لسان بطلها، الشاب السوري الذي عاد من فرنسا بشهادة الإخراج السينمائي، ليجد نفسه في سجن تدمر بتهمة الانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين، حيث قضى أكثر من 13 عامًا يحارب في سبيل البقاء على قيد الحياة، وسط تجاهل لأمر مهم، وجوهري في قضيته، أنه مسيحي!
الرواية التي تسرد تجربة شخصية للكاتب مصطفى خليفة، تنقل لنا صورة وافية عن طبيعة المعتقلين السوريين في تلك الفترة، حيث امتلأت غرف هذا السجن بآلاف الطلاب السوريين من مختلف الاختصاصات الجامعية والعلمية، وحملة الشهادات العليا، من أطباء، ومهندسين، وعلماء، فتكت بهم أدوات التعذيب حتى الموت.
أما في الفترة الممتدة بين عامي 1990 و2010، فتكشف بيانات الأمم المتحدة أن معدل نمو أعداد المهاجرين السوريين عمومًا 6.03%، ليرتفع بشكل ملحوظ قبل نحو خمس سنوات من اندلاع الثورة السورية، ووصلت نسبته إلى 10.7%، معظمهم ذوو خبرات ومؤهلات علمية عالية.
وما هو إلا عام واحد حتى انطلقت الثورة السورية، في مفارقة تاريخية من صيرورة سوريا في ظل حكم الأسد، إذ بدأت أولى الاحتجاجات بسبب تعذيب أطفال كتبوا عبارات مناهضة للنظام على جدران “مدرستهم”، متأثرين بما كانوا يشاهدونه على شاشات التلفاز، ومن بينها الفضائية السورية، من أحداث هزّت كلًا من تونس ومصر.
خلال الأشهر التالية سمعنا أخبارًا مرعبة من قبيل تحويل المركز الثقافي الروسي في دمشق لنقطة اعتقال، واستخدام جامعة البعث في حمص لقصف حي بابا عمرو، وتمركز مدفعيات النظام في جامعة الفرات بدير الزور، وغيرها من إجراءات عسكرة المؤسسات التعليمية التي يطول ذكرها.
ومع وصول الاحتجاجات إلى مدينة دوما في ريف دمشق، أقدمت المخابرات الجوية على اعتقال ناشطة سلمية في صفوف الثورة، في 26 تشرين الثاني 2011، بتهمة الإرهاب ومحاولة اغتيال ماهر الأسد. لنكتشف بأن هذه الناشطة ما هي إلا الدكتورة فاتن رجب فواز، التي كانت تُعِدُّ حينها رسالة دكتوراه جديدة بالفيزياء النووية لصالح إحدى الجامعات الفرنسية.
في السنة الأولى من اعتقال الدكتورة فواز تسبب لها التعذيب بنوبات صرع، ونزيف في الأذن والأنف، ومايزال مصيرها مجهولًا حتى اليوم، علمًا بأن تسوية عُرضت عليها للخروج من السجن، لكنها رفضتها، حيث تقضي التسوية بسفرها إلى إيران والعمل هناك ضمن اختصاصها لصالح النظام الإيراني، وفق ما يوضح معتقلون ناجون من سجون الأسد سبق وقابلوها.
قبلها بأشهر قليلة، وتحديدًا في 28 أيلول 2011، أطلق مجهولون الرصاص على الخبير في الهندسة النووية أوس عبد الكريم خليل، بالقرب من حي بابا عمرو في حمص، وتبادل كل من النظام والمعارضة التهم في مسؤولية مقتله.
ثم “ومن قبيل المصادفة”، شهد المبدعون السوريون المعارضون للنظام، من فنانين وعلماء وسواهم، اعتداءات شتّى تراوحت بين الاعتقال، والاغتيال، أو محاولة الاغتيال على أقل تقدير للضغط عليهم، كما حدث مع الممثل سلوم حداد إثر مطالبته بفك الحصار عن درعا، لنجده بعدها على فضائيات النظام السوري، يندد بالإرهاب ويعبّر بوسائل شتى عن ندمه.
وفي 10 تشرين الأول 2014 اعترض مسلحون حافلة تقل مجموعة أشخاص في حي برزة الدمشقي الخاضع لسيطرة قوات النظام حينها، وانهالوا عليها بالرصاص، قبل أن نسمع في الإعلام الرسمي أن خمسة علماء طاقة نووية قد تم اغتيالهم فعلًا في هذه الحادثة.
كانت مجلة “فورين بوليسي” أعلنت عام 2012 عن قائمة تضم 100 شخص من أهم المفكرين في العالم، وفي المرتبة 19 جاء اسم السوري- الفلسطيني باسل خرطبيل الصفدي، المبرمج ومطوّر الويب العالمي الذي ساهم بمشاريع غزت العالم مثل “ويكيبيديا”، و”موزيلا فاير فوكس”، وقد تم اعتقاله في 15 آذار 2012 من حي المزة الدمشقي على يد المخابرات العسكرية.
“نهاية تليق ببطل مثله (…) شكرًا لكم فقد قتلتم حبيبي”، بهذه الكلمات نعت “نورا غازي الصفدي”، زوجها باسل، يوم 1 آب 2017 عبر “فيس بوك”، بعد تأكيد خبر صدور حكم إعدام وتنفيذه بحق زوجها، بعد أيام من نقله خارج سجن عدرا في تشرين الأول عام 2015.
الآن، إذا جربنا أن نسمع خبر مثل مقتل عالم الآثار السوري خالد الأسعد في تدمر، يوم 18 آب 2015، فإننا لن نجد صعوبة بالغة باستبدال اسم الجناة الحقيقيين وهم مقاتلو “الدولة الإسلامية”، باسم النظام السوري، في حين سيبقى السؤال معلقًا عن الطريقة التي يستطيع فيها المجتمع الدولي التمييز بين إرهاب “الدولة الإسلامية”، وإرهاب النظام السوري، إذا كانت أفعال الفريقين تنتج جثثًا مشوّهة لا يمكن التفريق بينها.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :