أكبر ملف جنائي في تاريخ سوريا
إبراهيم العلوش
من أكثر الكليات التي تهافت السوريون عليها، وأرسلوا أبناءهم لدراستها هي كلية الحقوق، حيث بلغ عدد طلاب السنة الأولى في كلية الحقوق بجامعة دمشق حوالي 13 ألف طالب وطالبة في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، رغم أن البلاد تعيش تحت الأحكام العرفية منذ الستينيات وماتزال إلى اليوم تعاني من غياب الحقوق الأساسية للإنسان السوري.
ما سر هذا الإقدام على دراسة الحقوق في ظل الأحكام العرفية التي لم تكتفِ بمنع الحرية السياسية، بل طالت كل قطاعات الحياة، اعتبارًا من فتح محل حلاقة أو مكبس بلوك، أو نقل أثاث بين مدينتين.. وصولاً إلى العقارات التي خضعت للقانون 60 وتسبب بانتشار سرطاني لأحياء المخالفات في المدن السورية، وهذا القانون لا يقل ضراوة عن قوانين أجهزة المخابرات التي تبيح التعذيب وعدم المساءلة، حيث عزز اغتصاب الملكيات وتعويضها بقروش، ويتم إعادة توزيع العقارات المصادرة لأزلام النظام على شكل جمعيات سكنية وهمية أو مبرمجة، ليثروا من بيعها بمبالغ فلكية، لقد كان النظام يربيهم لليوم الأسود، وقد أفلحوا في هذه الأيام السوداء بتدمير البلد، فقط لأن السوريين طالبوا بالحرية.
هل هذا الإقدام على دراسة الحقوق كان بمثابة حلم للسوريين بأن ينالوا حقوقهم يومًا ما، أو تعبير عن محاولة استكناه (طلب غاية وحقيقة) معنى الحق والحصول عليه في ظل الأحكام العرفية ونظام التعذيب، والتنكيل بالمواطن، واعتباره مجرد كائن يجب استعباده حتى آخر لحظة في حياته.
لقد فشل عشرات ألوف الحقوقيين السوريين، بالإضافة الى مختلف القطاعات السورية التي تعمل بالشأن العام، في ترسيخ دولة القانون والحق والعدل، رغم كفاحهم الرمزي الذي كان له أدوار متفاوتة، ومتباعدة، عبر الإضرابات، وتعليق الجلسات في المحاكم، والتي لم تشكل نقاط علام كبيرة ومؤثرة بوجه النظام، الذي كان يستمد شرعيته من الدول التي يخدمها ويخدم مصالحها على حساب السوريين، وكان النظام عبر مسيرته، ينظر باحتقار ليس إلى الشعب السوري وحده بل حتى إلى منافقيه ومخبريه، وأحيانًا تصيبهم اجراءاته التعسفية التي تملى عليه من الخارج، أو من فئة ضيقة من مشغليه الداخليين الذين يرتبطون بمصالح تتناقض مع مصلحة بناء وطن سوري حر وعادل.
ما يحدث اليوم ومنذ بداية ثورة الحرية في 15 آذار 2011 يشكل أكبر حدث قانوني وجنائي عبر التاريخ السوري، بل ومن أهم الأحداث الجنائية منذ الحرب العالمية الثانية 1939- 1945.
هذا الحدث الجنائي يتمثل بقتل أكثر من 300 ألف سوري، منهم حوالي خمسين ألفًا قتلوا تحت التعذيب في سجون النظام، وتهجير أكثر من نصف عدد سكان سوريا من بيوتهم، سواء بالنزوح الداخلي أو بالتهجير الخارجي، وتدمير نصف المدن السورية بطيران النظام وبراميله المتفجرة، بالتعاون مع الإيرانيين والروس، ومن بعدهم الأمريكان الذين صاروا يدمرون المدن بحجة داعش، بينما كان النظام، والروس، والإيرانيون، يدمرون المدن لغاية الرضوخ لعائلة الأسد وحلفائها الداخليين والخارجيين.
هذا الحدث الجنائي الكبير تقدر الأمم المتحدة الزمن اللازم لاكتمال التحقيق فيه، وإصدار الأحكام بحق المتسببين به، والتعويضات للمتضررين به، بحوالي 100 سنة كما أوردت ذلك إحدى محققات الأمم المتحدة في تقرير نشر مؤخراً في “بي بي سي” البريطانية، وهذا ليس رقماً فلكيًا، فما يحدث في سوريا سيكون شاغلًا لأبنائها وللمهتمين بها طوال عقود وقرون مقبلة.
المحامون السوريون يعيشون اليوم نفس ظروف الشعب السوري، فهم قد هُجّروا، وقُتل ذووهم، وتدمرت بيوتهم، ونالت منهم الأطراف الإجرامية كما نالت من كل الشعب السوري، ومن الواجب عليهم استثمار معرفتهم القانونية، وخبراتهم الحقوقية وتوظيفها في بناء هذا الملف القانوني الكبير، والذي سيكون شاغلاً لألوف المحامين، وعبر عشرات السنوات المقبلة، فمساهماتهم اليوم ستغني الملف وتسرّع في إنجازه، وتزيد من مصداقيته، وتقرب الضحايا وورثتهم من نيل حقوقهم القانونية، وتعويضاتهم المادية والمعنوية، التي يستحقها ضحايا هذا الإجرام من قبل النظام، ومن قبل التنظيمات المتطرفة، والميليشيات الطائفية الداخلية، والخارجية، وخاصة الإيرانية منها، والتي سترتب على الدولة الإيرانية تعويضات كبيرة بسبب إجرامها، ناهيك عن ملاحقة الدولة الروسية عبر السنوات المقبلة للتعويض عن تجريب أسلحتها بالمدنيين السوريين بتدمير بيوتهم، كما صرح المسؤولون الروس علنًا وعبر وكالات الأنباء العالمية.
وحتى المؤيدون للنظام عانوا من هذا الحدث الجنائي الكبير بالضحايا، وبترمل وبتيتمي ذويهم، وبتورط الكثير من معارفهم بهذا الحدث عبر نهب الناس وتعذيبهم وقصفهم، وهم بالتأكيد بحاجة إلى تبيان فيما إذا خضع البعض مهم لابتزاز وتهديد، وبحاجة إلى محامين للدفاع عنهم اليوم، أو غدًا أو مهما طال الزمان، فالسلام لن ينعم به لا المعارضون، ولا المؤيدون ما لم تقم محاكم عادلة تعوض المتضررين من كل الأطراف، فالمصارحة هي الباب الأفضل والأقوى للمصالحة، أو ستعيش البلاد تحت نيران التهديدات الشخصية والطائفية والانتقامات العشوائية التي تطال الأبرياء قبل المجرمين، وحالة الفوضى المستدامة في لبنان والصومال وأفغانستان من أهم أسبابها عدم تجريم المتورطين قبل إصدار العفو العشوائي عنهم، وعدم إنصاف الضحايا والاعتراف بحقوقهم.
عشرات ألوف المحامين والقضاة والحقوقيين السوريين مطالبون بالمساهمة بجمع الحقائق، والتصريحات، والأوامر الإجرامية، والوقائع وتوثيقها تمهيدًا لفتح هذا الملف الكبير الذي سيكون أحد أكبر الملفات القانونية في التاريخ السوري، بل في تاريخ القانون العالمي، فالملف سيفتح إن عاجلًا أو آجلًا، وفيه جوانب مهنية وحرفية تستلزم الكثير من المهارات التي يمتلكها الكثيرون من الحقوقيين السوريين.
فهل يرد الحقوقيون السوريون الجميل للشعب السوري بتحقيق حلمه في بناء دولة القانون والحق، ويخرجون من اللامبالاة والإحباط، ويساهمون، بحماس وبفاعلية، ببناء تجمعات حقوقية، ومكاتب عابرة للمكان لتوثيق هذه الجرائم والأدلة القانونية، والتي تتوافر في محيطهم، ولدى معارفهم المتضررين، ريثما يتم جمع التفاصيل الجزئية مع بعضها بجهودهم أولاً، وبالتعاون مع الجهات الحقوقية الدولية ثانياً، لتشكيل التوثيق الشامل لإحدى أكبر الجرائم والمآسي الإنسانية والقانونية عبر التاريخ؟
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :