عنب بلدي – حنين النقري
في حين يعاني عشرات الآلاف من السوريين من عدم إمكانية الدخول إلى تركيا بشكل قانونيّ منذ أزيد من عام ونصف، أو الخطورة الشديدة في محاولات الدخول غير الشرعيّ من الحدود البرّية، نجد عشرات الآلاف من السوريين المقيمين في تركيا على الجانب المقابل يرغبون بالخروج منها، ومن بينهم آلاف يحاولون بجدية، طارقين كافة الأبواب، وسالكين كل السبّل المتاحة.
عبد الرحمن هو واحد من المصطفّين على طابور الخروج، ويعلل ذلك بعبارة تتردد على ألسنة الجميع “أبحث عن مستقبل أفضل، في بلد أكثر تطورًا”.
يعيش عبد الرحمن (29 عامًا (في اسطنبول، ويعمل مهندس كهرباء في شركة تركية منذ عامين، لكن وضعه الجيّد هذا لم يمنعه من التفكير تجاه “الأفضل”، حسب تعبيره، ويقول “وصلتُ إلى تركيا منذ ثلاثة أعوام ونصف، وبادرتُ بتعلم اللغة على الفور رغبة مني بالاندماج والبحث عن عمل، في البداية اعتمدتُ على ما يُرسله لي أهلي من مصروف شهري وتكاليف تعلم اللغة، إلى أن عثرت على عمل بشركة تركية، الراتب جيد مع ضمان صحي، والأهم بشهادتي كمهندس كهرباء، ما يمنحني إقامة عمل، وها أنا أتمّ العام الثاني في عملي معهم”.
منحة إلى كندا
رغم ظروف عمله الجيدة، لم تتوقف مطامح عبد الرحمن عند هذا الحدّ، فرغبته الأساسية في إتمام دراساته العليا والحصول على دكتوراه مازالت حاضرةً بقوة، يقول “رغبتي بإتمام الدراسات العليا تتعارض مع عملي في الشركة، الدوام هنا طويل ولا يتيح لي وقتًا للحضور الجامعيّ أو الدراسة، لذا سيكون عليّ الاختيار فيما بينهما، وهو ما يعني أنني سأحتاج من يمدني بنفقات المعيشة والدراسة، لذا بدأت بالتفكير في المنح الدراسية الخارجية، والتي ستتيح لي الدراسة باللغة الإنكليزية وهو ما أحبّذه، وتعفيني من البحث عن مصدر رزق لأركّز على الدراسة فحسب”.
يجهّز عبد الرحمن لسفره إلى كندا في الشهرين المقبلين بعد قبوله في إحدى المنح الجامعية هناك، ويؤكد “الأوضاع في تركيا جيدة ولم أعانِ فيها من أدنى إزعاج، ولربما عدتُ إليها بعد أن أحصل شهادة الدكتوراه في مجالي، ما يفتح لي آفاقًا واسعة في العمل البحثيّ والأكاديميّ”.
يصعب فهمنا هنا
رغم كونها من خرّيجي هندسة الكهرباء، لا تشترك مروة (26 عامًا) مع عبد الرحمن في طموحه لإتمام التعليم، لكنها تشترك معه في الوقوف على نفس الطابور، باتجاه الخروج من تركيا، تقول “أقيم وزوجي في تركيا منذ أكثر من ثلاثة أعوام، والأوضاع خلالها حسب ما نرى في تراجع مستمر، سواء من ناحية الأسعار والاقتصاد، أو من ناحية معاملة الأتراك لنا، هناك لغط كبير في الشارع التركي ودعوات لإخراجنا، يعتقدون أننا نأكل على حسابهم، وننافسهم على الفرص، كل هذا جعل المعيشة في تركيا تزداد صعوبة يومًا إثر آخر”.
تشير مروة إلى أنها تعرضت لمعاملة سيئة مرات عديدة فقط لأنها سورية، وتضيف “كثيرًا ما يعسّر الموظف معاملتك بين يديه عندما يعلم أنك سوري دون وجود أي نقص في أوراقك، وفي الغالب تختلف معاملة الناس لك عندما يعلمون أنك سوريّ، منذ يومين كنتُ أتجاذب الحديث مع سيدة في حديقة عامة، وكانت في منتهى اللطف إلى أن أخبرتها أنني سورية، بعدها أُصيبت بالبكم فجأة وكأنها رأت كائنًا من الزومبي، توقفتْ عن الحديث تمامًا وخرجت من الحديقة”.
حاولت مروة وزوجها تقديم طلبات لجوء للعديد من السفارات مرارًا، لكن أيًا من طلباتهم لم يُقبل حتى اللحظة، تقول “سنستمر بالمحاولة، ومن يصبر ينل”.
وضع قانوني معقّد
بالنسبة لزوج مروة رامي (33 عامًا)، وهو أستاذ مدرسة، تأتي رغبة الخروج من تركيا الأساسية بحثًا عن وضع قانونيّ واضح بشكل أكبر، يقول “لستُ طامعًا براتب اللجوء أو بدل المعيشة في أي دولة سأسافر إليها، سأبحث عن عمل وأعيل أسرتي من تعبي وهو ما أقوم به هنا في تركيا، كما أنني لا أتوقع دولة خالية من العنصريين والرافضين لوجود السوريين، المتاعب متوقّعة وستكون موجودة حتمًا، لكن الفارق الأساسيّ هو الوضع القانوني، بالنسبة لنا كسوريين وضعنا معقد جدًا، لسنا لاجئين ولسنا سيّاحًا، ليس معنا إقامة قانونية بتاريخ صلاحية محدد، والقوانين تجاهنا غير واضحة، رغم وعود إعطاء الجنسية المتكررة، وهو ما يجعلنا نخشى تغيّر الحكومة وتغيّر التوجه العام في معاملة السوريين في تركيا”.
يشير رامي إلى أن هذه المخاوف مشتركة بينه وبين معظم من حوله من السوريين، وأن أمنية الخروج من تركيا بدأت بالتحول إلى فكرة جادة عند محاولة الانقلاب على نظام الحكم ليلة 15 تموز العام الماضي، يقول “وقتها سهرنا طول الليل نقرأ أسماء الدول التي يمكن أن نسافر إليها دون تأشيرة بجواز سفرنا السوريّ، كانت ساعات مرعبة ومفصلية، بعدها توصّلت إلى قناعة بعدم وجود استقرار لنا في تركيا ما دامت إقامتنا فيها (مؤقتة)، قانون قد يثبتها وقانون قد يلغيها”.
أريد اللقاء بأهلي
بالنسبة لميس (31 عامًا( فالدافع الأساسي لخروجها من تركيا كان الرغبة في لقاء أهلها، وتسهيل إمكانيات التنقل والسفر التي باتت أكثر صعوبة منذ مطلع عام 2016، تقول “لجأ أهلي إلى السويد، في حين يقيم أهل زوجي في لبنان، وفي كلتا الحالتين لا إمكانية متاحة للقائهم، فلا هم قادرون على الحصول على تأشيرة لدخول تركيا، ولا نحن قادرون على زيارتهم، أو ضمان العودة لتركيا بعد زيارتهم، وهو ما جعلنا نفكّر بمراسلة السفارات، وبالفعل منذ أكثر من عام راسلنا عدة سفارات ومن بينها الفرنسية التي حصلنا منها على قبول لطلباتنا، وها نحن اليوم نتمّ شهرنا الثاني في فرنسا والحمد لله التقيت بأهلي بعد عامين ونصف من الفراق”.
تقول ميس إن الحدّ من إمكانيات تنقل السوريين وتقييدها بهذا الشكل حرم مئات الآلاف منهم من رؤية أقاربهم وأصدقائهم، وتوضح “عندما تكون في بلدك محاط بأهلك وأحبابك، قد تبقى عشر سنوات وعشرين سنة دون أن تفكر بالسفر خارج الحدود مرة واحدة، وإن حصل فلأسباب مرتبطة بالسياحة بشكل أساسيّ، لكن وضعك كلاجئ يجعل من إمكانية التنقل أمرًا حيويًا لك، لأنك تقيم في بلد لا أحد لك فيه وبالتالي ستحتاج للسفر للقاء أهلك وأحبابك، أنا مع القانون لتنظيم حركة ثلاثة ملايين سوري في تركيا، ولكن ليس مع تقييدهم ومنعهم التام من الحركة، كيف يمكن أن يتحمل الإنسان العيش دون أن يلقى أهله؟”.
اتجاه واحد فقط
يجلس الحاج أبو راتب (67 عامًا) في ساحة أحد مساجد لواء اسكندرون، منتظرًا أذان العشاء، ويقول ردًا على سؤالنا حول مدى رغبته في الخروج من تركيّا “كل ما أريده موجود هنا، بلد طيب، وشعب ودود، ومعيشة رخيصة مقارنة بباقي دول المنطقة، حتى إنها أرخص من لبنان، والأهم من كل ذلك أنه بلد إسلاميّ، تسمع الأذان في كل مكان، لا تعاني زوجتي أو بناتي من غربة بحجابهنّ وملابسهن المحتشمة، ثقافة الأتراك قريبة من ثقافتنا كسوريين، وهو ما يخفف من مشاعر الغربة علينا هنا، لذلك لا أرغب بالسفر إلى أوروبا حتى لو أتيحت لي فرصة ذهبية لأسافر”.
يتفهّم الحاج أبو راتب رغبة الشباب بالسعي لتحسين أوضاعهم، وهو ما دفع بأحد أبنائه للسفر إلى فرنسا في منحة تعليمية، يتابع “الشباب الله ييسرلهم، لهم أهدافهم ومستقبل عليهم أن يبنوه، بالنسبة لي فالخروج من تركيا سيكون إلى مكان واحد، بيتي في الغوطة الشرقية”.