جودي سلام – عنب بلدي
يسلّط الإعلام الضوء على المعارك بين مقاتلي المعارضة وقوات الأسد وتوزيع الخارطة السورية بين الجانبين، أو معاناة المناطق التي تشهد صراعًا مستمرًا من نقص الدواء والغذاء، لكن جانبًا آخر من المعاناة والاحتياجات النفسية لدى المقاتلين والمدنيين بعد ثلاث سنوات من الحرب قلّ من يتطرّق لها.
في تحقيق لـ «عنب بلدي» أجرته في منطقة خان الشيح المحررة من غوطة دمشق الغربية، نحاول التركيز على هذه الاحتياجات من خلال فئة من مقاتلي الجيش الحر الذين يعيشون مع أسلحتهم بعيدًا عن أجوائهم العائلية والعاطفية.
جمال أحد الناشطين الذين رافقوا مقاتلي المعارضة في خان الشيح لمدة شهرين تقريبًا، يحدثنا عمّا آلت إليه حالتهم النفسية، مشيرًا إلى «تصرفاتٍ غريبة تندرج تحت حالات الانفصام بالشخصية».
- شرّ البلية ما يضحك
إحدى تلك الحالات هي ردّة فعل بعض المقاتلين على البراميل التي تلقيها طائرات الأسد، إذ «يقف المجاهدون يتعقبونه وهو يهوي إلى الأسفل»، وعندما ينزل البرميل بعيدًا عنهم، يمسكون بأيدي بعضهم ويبدؤون بالدبكة على أنغام «تي رشرش تي رشرش»، ويبدأ الضحك القويّ «غير مبالين بما سببه هذا البرميل من دمار وقتلى».
ويتابع جمال أنه من الطبيعي أن نجد الشباب في المنطقة «يضحكون في الطرقات مثل المجانين، أو يتوقفون فجأةً ويبدؤون بالرقص والتصفيق»، معتبرًا ذلك نوعًا من «التفريغ عمّا في داخلهم». وأضاف جمال أنه شهد موقفًا لمقاتل بدأ بالاستحمام بينما «أسرع صديقه إليه يحذره من تحليق طيران الأسد فوق المكان، لكنه أكمل الاستحمام وهو يغني ويضحك بصوت عالٍ كالمجنون».
- متَبّلي
كلمة تتردّد كثيرًا على ألسنة المقاتلين في البلدة، قاصدين بها «حالة الضياع والفوضى، وعدم فهمهم للصورة الكاملة، حيث «لا يعلم القاتل فيما قَتل، ولا المقتول فيما قُتل… لا أحد يعلم من الذي يخطط أو ينفذ» بحسب تعبير أحد عناصر الحر، بينما يُمضي المقاتلون ليلهم بالتدخين «لدرجة التحشيش»، كما يصف جمال، وعند إسداء النصيحة لهم وتنبيههم للضرر الناتج عن هذه العادة تأتي إجابة البعض منهم: «صحتنا لا تُهمّ، غدًا نقصف بصاروخ ونموت كلنا… نريد أن ننسى همنا قليلًا».
الحالة النفسية هذه لا يقتصر تأثيرها على مزاجية المقاتلين في أوقات استراحتهم، بل تنعكس بشكل مباشر على أدائهم القتالي، ما يجعله عشوائيًا يتعارض أحيانًا مع الهدف الذي أراده هؤلاء المقاتلون حين تفرغوا للقتال؛ ويذكر أحمد وهو أحد حاملي شعار «متَبّلي»، أنه مع زملائه في الكتيبة استهدفوا أحد حواجز الأسد القريبة بقذائف الهاون، لكنهم لم يكونوا «على ثقة تامة» أن القذائف ستصيب الحاجز أو المدنيين، لكن «لا يهم فكلهم شهداء عند الله»، مردفًا بالقول «نحن نفجر والله بيختار… ناس على الجنة وناس على النار».
من جانبه يرى جمال أن ما ينقص هؤلاء الفتية هو من يقودهم ويرشدهم، فهم فتية يشعرون بالضياع والتشتت، موجهًا عتبه على المثقفين وعلماء الدين «الذين تركوا هذه المناطق تواجه مصيرها لوحدها»، متسائلًا «ماذا تتوقعون من فتيةٍ صغار دون أي مرشد أو قائد، أصبحوا بحاجة لأطباء نفسيين؟».
- فكر القاعدة
بدوره حاول الشاب محمد -الذي خرج من منطقة الخان مؤخرًا- فتح بعض المواضيع الدينية والاجتماعية مع المقاتلين، ليجدهم «جميعًا منصتين راغبين إلى الاستماع ومتلهفين لأي حديث أو نقاش، مرجعًا في الوقت ذاته سبب انتشار «فكر القاعدة وداعش» في المنطقة إلى المفاهيم الخاطئة للدين، إذ «يضعون ورقة ليغطوا بها وجه المذيعة على التلفاز لأنه محرم عليهم رؤية النساء على الرغم من أن معظمهم لا يصلي».
وأكدّ محمد أن أكثر المواضيع التي كانوا «يتشنجون» من نقاشها هي «أحاديث الخلافة الإسلامية والنساء»، ناقلًا لنا وجهة نظر الغالبية هناك بتحريم خروج المرأة وأن صوتها ووجهها عورة، كما أن معظمهم يحاربون من أجل خلافة إسلامية «لا يفقهون شيئًا عنها»، إضافة إلى أنهم «يتشاجرون على هذه المواضيع لدرجة أنهم يوجهون المسدسات على بعضهم عندما يحتد النقاش».
ويضيف محمد بأن بعض هؤلاء المقاتلين يتمنون لو أنهم يستطيعون الانتحار ومنهم من كاد أن يفعلها «لولا أنه ما زال يحتفظ بالقليل من العقيدة الإسلامية التي تحرم عليه فعل هذا وتتوعده بالعقاب العسير».
- دروس للتوعية والإرشاد
في الجانب المقابل فإن أساتذة ومثقفين يحاولون التعامل مع هذه الحالات، وتنظيم أوقات المقاتلين في بعض المجموعات، بحسب «أبو يونس» أحد الناشطين في المنطقة، مشيرًا إلى مراكز للتدريب العسكري وتخريج المقاتلين، إضافة إلى النشاطات والدروس الدينية التي تحث على الالتزام بالأخلاق الحسنة، وهو ما ينعكس إيجابًا على أداء المقاتلين الذين بدأوا يدركون متطلبات المعركة.
من جهة أخرى لم ينكر «أبو يونس» حالات الضياع والتصرفات الغريبة عند قسم من المقاتلين، مقسمًا المقاتلين في المنطقة إلى ثلاثة أقسام، «القسم الأول يعمل وفق استراتيجات وأهداف واضحة، بينما يعيش القسم الثاني حالة من الضياع والملل، أما القسم الأخير فيمثله السارقون وقطاع الطرق».
بدورها تجد «أسماء» الأخصائية في الإرشاد النفسي أن هذه الاضطرابات النفسية تأتي نتيجة لظروف الحرب والأوضاع المعيشية الصعبة، مؤكدة أن أغلب الذين يعانون من هذه الاضطرابات لا يستطيعون الاعتراف بها على اعتبارها انتقاصًا منهم، أو بسبب عدم إدراكهم لما يعانونه من مشاكل وجهلهم بكيفة التعبير عمّا يمرون به.
وتضيف الأخصائية أن طريقة استجابات الأشخاص للضغوط النفسية في ظروف الحرب تختلف من شخص لآخر بسبب الفروق الفردية وعامل الاستعداد للتعامل مع المشاكل، إضافة إلى نسبة المهارات والثقافة التي يمتلكونها في مواجهة ظروف مشابهة.
وحول طريقة التغلب على هذه الاضطرابات أوضحت الأخصائية صعوبة تطبيق ما ينصح به من الدعم النفسي والاجتماعي على هؤلاء المقاتلين، في ظل الظروف الصعبة التي يعيشونها، خصوصًا حالة الخطر التي قد تفقدهم حياتهم في أي وقت، إلا أنّ الوازع الديني يمكن أن يلعب دوره في هذه الظروف، كونه يمثل عنصرًا أساسيًا في حياتهم.
وفي استطلاع للرأي لعددٍ من الناشطين في الريف الغربي لدمشق، ذهب أغلبهم إلى أن الاهتمام بالحالة النفسية للمقاتلين وتوعيتهم وتمكينهم ثقافيًا واجتماعيًا، يجب أن يكون من أولويات القائمين على العمل العسكري في حال أراد هؤلاء الانتقال بمقاتلي المعارضة من حالة «متبّلي» إلى مصاف الجيوش المتقدمة.