محمد رشدي شربجي
لا شك أن المنطقة تعاني من مشاكل بنيوية هيكلية منذ بداية القرن الماضي، فلم تأخذ شعوب هذه المنطقة (عربًا وكردًا وأتراكًا) فرصتها، ولم يؤخذ رأيها أساسًا بشكل نظام الحكم الذي تريده في عالم أنهى لتوّه نظام الإمبراطوريات مع نهاية الحرب العالمية الأولى.
وبعدما كان ابن بغداد لا يرى ما يفصله عن ابن دمشق، والكردي ابن جنوب خط سكة الحديد، شمال سوريا، لا يرى ما يفصله عن مدن كردستان شمال الخط، ازداد ارتفاع الحدود السياسية كل يوم، وعلى جوانب هذه الحدود “الوهمية” تنمو أيديولوجيات ما لبثت تتبدل أشكالها وتريد لهذه الحدود أن تنتهي.
ولكن السؤال هنا، من قال إن غيرنا أخذ فرصته أساسًا حينها؟ من آسيا إلى أمريكا اللاتينية مرورًا بالشرق الأوسط وإفريقيا لم يأخذ بالغالب الأعم برأي أحد حين اجتمعت دول “العالم الأول” الاستعمارية لتتقاسم النفوذ في العالم، ولكن لماذا تقدمت مناطق العالم الأخرى وبقيت منطقة الشرق الأوسط تكتوي بصراعات لا تنتهي؟ البعض قد يشير إلى خلل ثقافي، وإصلاح ديني يتطلبه الإسلام تأخر لقرون، هذا صحيح، ولكنني أعتقد أن الخلل الأساسي أن المنطقة ابتليت بكيان ضد التاريخ والجغرافيا اسمه “إسرائيل”.
وهذا ” الكيان” لا يمكن تشبيهه بنظام استبدادي نشأ بسبب خلل ثقافي وبنيوي نعاني منه، بل بسبب رغبة استعمارية نشأت في سياق آخر، وطريقة لحل المشكلة اليهودية التي انفجرت في وجه الغرب في الحرب العالمية الثانية. لقد كانت في عمقها نظرة وقناعة أوروبية بأن الكارثي فيما فعله هتلر أنه فعله في داخل أوروبا، لقد كان عليه أن يفعلها هناك… عند أقوام أسفل السلم.
قامت إسرائيل باقتلاع شعب بأكمله من أرضه، وخلقت بذلك أزمة هجرة ولجوء في أربع دول مجاورة سميت دول الطوق (لبنان وسوريا والأردن ومصر)، ثم شنت ضد البلاد العربية سبع حروب مدمرة انتصرت فيها جميعًا، عدا عن عشرات الحملات العسكرية على الضفة والقطاع، إحدى هذه الحروب كانت في الخامس من حزيران 1967، وفيها كتبت إسرائيل نعوة القومية العربية، وأعلنت الميلاد الفعلي للإسلام السياسي.
لقد احتاجت النخب العسكرية في العالم العربي لإسرائيل لتبرر حكمها بداية، أيام كانت إسرائيل عدوًا، ثم احتاجت لإسرائيل لتقوي حكمها عندما صارت إسرائيل صديقًا. حسني الزعيم قائد أول انقلاب في سوريا قام به لأجل فلسطين، وصدام حسين طالب بانسحاب إسرائيل لحدود الخامس من حزيران كشرط لانسحابه من الكويت، جمال عبد الناصر أنهى الحياة السياسية في مصر وسوريا بعدها من أجل فلسطين، وآخر المطاف حط هذا الصيد الثمين في حضن إيران التي بنت ميليشيات عابرة للحدود “الوهمية” دمرت حتى اليوم أربع عواصم عربية (من أجل فلسطين طبعًا!).
ويكفي إسرائيل خطايا أنه بسببها صار لدينا محور يسمى محور الممانعة، لقد أخرج العرب القضية في كامب ديفيد 1979 من الباب، أو هكذا ظنوا، فإذا بها تدخل عليهم من النوافذ، ولعل من الكلمات الرائدة التي أطلقها الفيلسوف مالك بن نبي منذ نصف قرن أن العرب هم مشكلة فلسطين وليست إسرائيل.
لقد بقيت قضية فلسطين حاضرة في قلب الشعوب العربية برغم كل ما حاولت فعله الأنظمة الوظيفية الحاكمة، ولعل ما يدل على ذلك أن أول ما فعله ثوار مصر بعد انتصار ثورتهم هو مظاهرة غاضبة حاصروا فيها السفارة الإسرائيلية في القاهرة، وبرغم حال السوريين المأساوي ماتزال القضية موجودة في وجدانهم وأحاديثهم اليومية كما كانت.
لفت نظري ابتعاد يسار الممانعة ومن يدور في فلكه عن الإشارة لرفع المرابطين في المسجد الأقصى لعلم الثورة السورية، الثورة التي يتهمها هذا اليسار ليل نهار بأنها صنيعة إسرائيل، لم يجد المرابطون إلا علمها ليرفعوه!
من ناحية الخطاب فإن فصائل الثورة على اختلافها لا تأتي على ذكر فلسطين إلا نادرًا، مقارنة بالنظام وميليشيات الممانعة من حوله كفيلق القدس (القدس!) وحزب الله وغيرهم، ومع هذا لا تجد صورة لعلم حزب الله أو سليماني في القدس.
لا أريد المبالغة في حركة قد تكون عفوية وفردية، ولكن ما أحب أن أقوله إن فلسطين تعرف الحقيقة، وهذا يكفينا.