عنب بلدي – نور عبد النور
بإمكان جرعة من الهواء النظيف على أحد طرق تركيا السريعة أن تجفّف القلب حتى يصبح قابلًا للخدش، كما يحدّ الميل الواحد للأشجار على جانبي الطريق إلى الجنوب، من جماليّة مشهد من المفترض أن يكون مشهد الافتتاح في دراما العودة إلى البلاد.
الطريق معبّد بعناية، الكتل الإسمنتية في القرى الحدودية متجانسة حدّ الضجر، الأحمر واحد في كلّ مكان، والنجمة واحدة، لا شيء مضطربٌ على هذا الطريق سوى وجهته.
الرغبة في كسر الجماد، كانت ترسم في مخيلات العائدين أنّ الشريط الحدودي هو مفتاح النقيض، والحدّ الفاصل بين القلق والرغبة في مواجهته، إلا أنّ الكيلومترات الخمسة التي سبقت الحدود، لم تكن في حسابات الحالة العاطفية، بل كانت صورة مصغّرة عن يوم المحشر.
“لماذا نحمل متاعنا يوم المحشر”، يقول المسنّ الراغب في التخلّص من كل الحقائب التي تحملها عائلته، ولا أحد من السامعين يملك جوابًا، ولو علم أحدهم أنه سيقطع تلك المسافة مشيًا على الأقدام لما جاء، إذ لم تعد التضحية من أجل البلاد فكرة جوهرية يمكن أن تواجه تساؤلات المنهكين من أعوام الغربة.
ثمّ ماذا لو حلّت الظهيرة فوق رؤوسنا ونحن ننتظر الدخول؟ وماذا لو رفض حرس الحدود أوراقنا ورموها في وجوهنا؟ ولماذا يبكي الأطفال كثيرًا؟ بل لماذا ينجبهم آباؤهم إلى هذا العالم القلق؟ متى ينتهي هذا اليوم؟
غير أنّه على اللاجئين المئة وخمسين ألفًا، العائدين لزيارة بلدهم بمنحة تركية “سخيّة”، ألا يبدوا الكثير من التذمّر، بل يكفي القليل منه لبرهنة الإنسانية، أما الفائض فيمكن أن يبقى في القلب إلى ما بعد الحدود، على أمل أن يُنسى مع أول نفحة حرب.
مع صعود الشمس، تزداد حرارة الحصى الذي حفر قعر الأقدام، وتتلاعب الأشعة بقشرة الرؤوس، وألوان الجبهات، فيغلي كلّ شيء: المياه في العبوات البلاستيكية المغبرّة، حمالات الحقائب، دبابيس شالات الرأس، وأعصاب موظّف الحدود الذي لاح من بعيد.
ثلاثة أكشاك تسجيل تركية، في نهاية المعابر الثلاثة، وآلاف العائدين يشاركون في صناعة الطوابير الضخمة، ليصبح الوصول إلى المقدّمة هدفًا بعينه، منفصلًا عن الحاجة إلى العبور، وعن الحاجة إلى لقاء الأهل، وحين يستقبلنا أوّل رصيف في البلد، تنسينا المشقّة أن نفرح.
شروط العبور في الجانب السوري أقل تعقيدًا ولا تستدعي ربع يومٍ آخر، حتى حافلات العبور بين الطرفين التي تأخذ شكل كتل من الحقائب المتحركة تبدو أكثر لطفًا، في هذه الفسحة تعود الانفعالات إلى شكلها المتوقّع بالتدريج، وتمتزج المخاوف بفرح طفيف، لم يبرح موقعه خلف قشرة القلب.
كما تسهم حالة المتوقّع في منع الدهشة، وتقبّل ضرورة التحول فيما بعد إلى حرباء مسافرة، وتبديل القشرة والأوراق الثبوتية مع كل كيلومترين.
أما محاولة جمع الملاحظات، فغالبًا ما تبوء بالفشل، وتصبح مشاهدات مجرّدة: الحُفر في طرقات البلد أصبحت أكثر من ذي قبل، الأبنية ماتزال مدمرة، وجوه الناس بلا تعابير، الأطفال لا يخافون الموت دهسًا، وربما لا يخافون الموت أبدًا، النساء متعبات، والرجال متورّطون، وذلك متوقّع أيضًا.
ومن أجل إتمام الطريق بسلام، يجب تبنّي شخصية “المواطن الصالح”، عبر التصالح مع أهمية الابتسام لكافة الأعلام، الأسود والأخضر والأصفر والأحمر، كما يُفضّل إظهار الاحترام للحى ثم “الكفافي” ثم العمائم.
تلقائيًا، سوف يضبط المسافر نظراته عند المرور بأي حاجز عسكري، خوفًا من أن تشي تلك النظرات بما لا يرضي أحدهم، نظرات الاستغراب تجاه مهاجر يحاول أن يتحقق من هويتك على أرضك قد تفعّل صلاحياته بما يجعل المنزل أبعد، ونظرات الاستهجان تجاه حارس “دويلة السرديات التاريخية” قد تضعك في موقف محرج مع انتماءاتك القومية، أما نظرات الخوف تجاه “حماة الديار” فلا يمكن التكهّن بتبعاتها.
كان الوصول إلى مدينة حلب من الحدود الشمالية، يستدعي المرور بأكثر من مئة نقطة عسكرية، لكنها حين لاحت بانكساراتها، انهارت خلفها كل الحواجز.
عشرون يومًا في قلب البلاد، كانت تكفي لمعاينة ضياعها عن كثب.