لم نطالب بأكثر من حق أي إنسان آخر في هذا العالم أبدًا
هل غيّبت الحرب روح الثورة الأولى؟
عنب بلدي – حنين النقري
لم يعد الحديث عن الأنفاس الأخيرة واللحظات المتبقية من عمر الثورة بمستغربٍ أو مستهجن، المنشورات على صفحات “فيس بوك” وغيرها تناقش المسألة بوضوح كامل، وقناعة مَن يأمل بإنقاذ ما يُمكن إنقاذه، وبين نادب ومعتبر يوزّع الناس تعليقاتهم وأفكارهم. فهل غيّبت ويلات الحرب روح الثورة الأولى؟ وهل يتمكن النظام بمحاولاته تحسين ظروف البلاد من تبييض صفحته الحمراء القاتمة؟
من نافذة بيتها، تراقب ريم مشهد إزالة (البرّاكيات) من على أرصفة حمص، وهي أكشاك بيع انتشرت في الحارات بسبب سوء الأوضاع الأمنية في حمص خلال سنوات الثورة، تقول المهندسة ريم (35 عامًا) “يتظاهر النظام بمحاولاته إعادة الاستقرار إلى البلاد، يقلّل الحواجز، يزيل البرّاكيات، ويشجع الناس على القيام بمبادرات اقتصادية تنعش الأسواق، لكنه في أحسن الأحوال أشبه بمن يبني بيتًا من ورق على فوهة بركان، معظم السوريين في الداخل مضطرون للبقاء لأنه لا مكان آخر لهم، وليس لأنه خيارنا أو بسبب تحسن الظروف واستقرارها أو لأننا مؤمنون بالنظام، على الإطلاق”.
لا تنفي ريم اختلاف الأوضاع في السنة الأخيرة عما كانت عليه في سنين الثورة الأولى، من حيث تخفيف عدد الحواجز أو انتعاش حركة الأسواق في حمص، لكنها تستدرك “الأمان الذي يحاول النظام صنعه ظاهريّ، ونحن موقنون أنه لا أمان لنا تحت سلطته وأن الموضوع متعلق بالوقت لا أكثر، حتّى وإن استطاع بتجويع الناس وقتلهم تحجيم طلبات رجل الشارع من الحرية والكرامة، إلى جرة الغاز وربطة الخبز، إلا أن أحدًا لا ينسى القيم التي خرجنا لأجلها بالثورة، وفي كل حارة من حمص هناك معلم أو إشارة تعيد لنا ذكرى ثورتنا الموءودة”.
وعي شامل
بدوره يرى المدوّن طريف (28 عامًا)، من حمص ويقيم في تركيا، أن الثورة ورغم عدم تحقيقها أهدافها إلا أن أثرها كان كبيرًا في وعي السوريين وفهمهم، يقول “لا أظن أننا في سوريا كنا نفهم النظام السوري ومقوماته وأدواته وأساليبه كما نفهمه اليوم بعد مرور سبع سنوات على الثورة، نظام الأسد أصبح في وضع منكشف تمامًا لم يكن متاحًا لنا في السابق. ليس هو فقط، بل معه المجتمع الدولي، والقوى الإقليمية والعالمية”.
ويشير طريف إلى أهمية هذا الفهم للنظام وللمجتمع الدولي على حد سواء، يقول “بدون هذا الفهم الذي أتاح لنا كل تلك المعطيات لا يمكن تغيير النظام وبنيته على الإطلاق، لا اليوم ولا غدًا. طبيعة نظام الأسد ومعطياته لم تعد حبيسة كتب سميكة قليلة على الرفوف، وإنما باتت تُشكل وعي ملايين السوريين، الأمر ينطبق أيضًا على فهمنا للإسلاميين، حيث تبينت لنا حقيقة شعاراتهم، انكشفت أمامنا قوى المعارضة، وغيرها على نحو ما كان لينكشف، هذا الوعي الثوري يمكن له أن يشكل أرضية متينة لسوريا أخرى”.
ويشير طريف إلى الإرادة الدولية التي تبيّن للسوريين دورها “بخنق الحراك الشعبي وحركات التحرر في العالم العربي” حسب تعبيره، ويضيف “حتى لو قلنا بأن المجتمع الدولي قد تدخل بإزاحة الأسد منذ العام الثاني أو الثالث، وجنبنا حربًا لا خير فيها ولا منتصر، كما نبكي على سوريا اليوم سنبكي عليها آنذاك، نحن ننظر إلى دول مثل اليمن، مصر وحتى تونس، هل قطفوا ثمار ربيعٍ عربي مفترض؟”.
لاجئ– مؤيّد
“يستغل مؤيدو النظام تعبيرنا عن مشاعر الغربة، وحنيننا للوطن، ليدللوا على ما جنيناه على أنفسنا حسب تعبيرهم، وهو ما أسمعه بشكل مستمر سواء بشكل مباشر، أو عبر تعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي”، تقول مرام، خريجة أدب إنكليزي مقيمة في ألمانيا، وتتابع “خلافًا لما يحاول المؤيدون تأكيده، عندما يخرج السوري إلى دول العالم المتقدم، ويرى الديمقراطية وقيمة الإنسان فيها، يزداد إيمانًا بمبادئ الثورة التي نادى بها، لم نطالب بأكثر من حق أي إنسان آخر في هذا العالم أبدًا”.
وتشير مرام إلى أن أكثر ما يثير الاستهجان والاستياء في أوروبا، هو ظاهرة “اللاجئ- المؤيد” حسب تعبيرها، موضحةً “قد نقول عمّن مازال مؤيدًا للنظام في سوريا منتفعًا من وجوده، أو مغررًا به، لكن أن تكون لاجئًا إلى بلاد أوروبية، وترى حقوق الإنسان فيها، وآلية إنفاق الموارد على تقدّم البلاد وراحة الإنسان، وتبقى مؤيدًا للنظام الذي هربت من ويلات حربه على الشعب، فهو أمر لا تفسير له”.
ثوار الصف الأول
في كل حديث يتطرّق إلى الأوضاع المعقّدة في سوريا، لا يتوانى الحاج أبو زياد، ستيني من الغوطة الشرقية، عن التأكيد أنه سيبقى مؤيدًا للثورة لآخر يوم في حياته، يقول “رغم أنني لم أتجاوز الصف الثالث في المدارس لكنني كنتُ واعيًا لممارسات النظام وقمعه وربّيت أبنائي جميعًا على الوعي بها منذ كانوا في المدارس لئلّا يتأثروا بأفكار البعث والطلائع وما إلى ذلك، خرجتُ مع أبنائي جميعًا إلى أولى مظاهرات الغوطة الشرقية عام 2011، اعتُقلتُ وأنا أنقل المصابين من إحدى المظاهرات بسيارتي في منتصف نيسان 2011، لكن النظام كان في ذلك الحين يتظاهر بأنه يتقبل الرأي الآخر وأخلى سبيلي بعد أربعين يومًا، بعدها بعام تقريبًا اعتُقل ابني البكر، وحوصرنا في الغوطة، ولم يكن ثمة طريقة للسؤال عن زياد أو معرفة مكانه”.
خسارات متتالية
في 2014 خرج الحاج وجزء من عائلته من الغوطة لدواعي العلاج، وهنا كان بالإمكان السؤال عن المعتقل، لكن من قال إن أجوبة الأسئلة تأتي بما يسرّ دومًا؟
يقول أبو زياد “ببرود وحقد أخبر الضابط في الشرطة العسكرية زوجتي أن زياد توفي عام 2013 في سجن صيدنايا، ورغم أننا كنا نتوقع خبرًا كهذا لكن وقعه كان صعبًا للغاية، حمدنا الله، ورجونا أن يتقبله شهيدًا، شهيد بين يدي رب العالمين ولا معتقل بين يدي نظام أعرف بطشه وطعم سجونه، تزامن ذلك مع مضايقات لي على الحواجز، وهكذا انتقلنا إلى تركيا، تاركين خلفنا مدينتنا وحارتنا، تركنا كل شيء لأنه لم يبق لنا شيء فيها”.
مبادئ راسخة
رغم ما يلقاه الحاج أبو زياد من صعوبات وتعقيدات للعيش في تركيا، ورغم تشتت عائلته وما تعرض له من خسارات في الأبناء والأموال، إلا أن ذلك كله لم يكن كفيلًا بتغيير آرائه في الثورة أو النظام، يقول عن ذلك “اليوم عائلتي مشردة، أملاكي جميعها تحت سلطة الأسد أو حصاره، لا أعرف إن كنتُ سأعود أم لا، لكنني لا أحمّل خساراتي على الثورة، النظام سبب كل ما نحن فيه، وهو المسؤول والمجرم بحق السوريين ودمائهم، هو من قتل ابني وهجّرني وشرّد عائلتي، والثورة ضده حق للسوريين، بل واجب عليهم”.
يتابع الحاج بعد لحظات من الصمت والتأثر “لا أسامح نفسي إن ندمت على مشاركتي بالثورة يومًا، ولا أسامح أبنائي إن هم تناسوا حقهم فيها ولم ينقلوا حكايتها لأبنائهم، بغض النظر عمّا آلت إليه الأمور بسبب النظام لكننا خرجنا على ظُلمه ثوّارًا”.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :