عنب بلدي – العدد 110 ـ الأحد 30/3/2014
قد يهيّأ للبعض، أن أقسى ما تعانيه المناطق المحاصرة هو حرمان الغذاء، وأن الأمر يبلغ بأقصى حدوده الموت جوعًا؛ لكن سبر الواقع عن قرب يجعلنا ندرك أن الأمور أكثر تعقيدًا مما نتصور، وبحاجة لجهد آخر، ومعونات أخرى لا تملك الأمم المتحدة قوافلها… معونات غير غذائية.
تحدثنا في العديد من المقالات السابقة عن طبيعة حياة المحاصرين، عن بوّابة الزمن التي أجبرهم الحصار الأسدي على عبورها فجعل المعيشة أقرب لقرون خلت، لا يذكّرك أنك في عام 2014 إلا أمران، أصوات الطيران الحربيّ وأسلحته المتطورة، والأسعار الخياليّة للسلع. سوى ذلك.. فنحن نعيش في القرون الوسطى، لكن يبدو أن هذه المقاربة المعيشية باتت تنطبق على زوايا أخرى غير غذائية.
الأفكار يا سادة أيضًا، كان لها نصيبها في بوابة الزمن، وطبيعيّ أن يحصل هذا، فالأفكار تتأثر بشكل كبير بالظروف المعاشة والواقع المحيط، ولئن كانت التحدّيات والمصاعب هي ما يصنع الحضارات والأمم، إلّا أنها عندما تبلغ حدّا معينا تغدو -أي المصاعب- شللًا يصيب المجتمع ويجعله عاجًزا عن التطور، بل ويعود به إلى الخلف في أفكاره ومعتقداته ﻷنّه لم يرَ في التطور والتقدم وسيلة تعينه.. فكفر به، بكلّ زواياه.
أحد الأمور التي بدأت تظهر مثلًا، الإيمان بالخرافات والخوارق، وبأنّ الفرج ليس بمقدورنا نحن البشر، ولا نملك أدنى أدواته، تحوّل الصبر إلى عجز والتوكل إلى تواكل، بات القدر هو المسؤول عما نعيشه -بإغفال تامّ أننا من يشارك بكتابته- وصار العيش على أمل مهديّ ما يأتي فتعمّ الأرض خيرًا وعدلًا.
ولعلّ المعيشة الصعبة هي البيئة الأكثر خصبًا لهذه الأفكار، ما جعلها تتطور عند بعض الفئات إلى إيمان بالأحلام والدجل والشعوذة وسيلة لمعرفة الغيب وموعد «النصر».
صعوبة الحياة أيضًا تجعل اللقمة هي الأولوية الأولى، ولعلّ فقدان الأمن شارك في تهميش دور التعليم والمدارس، فغدا العلم أمرًا ثانويًا من ضروب الرفاهية، هناك تعليم ومدارس لا شكّ، لكني أتحدث عن الانطباع العام بعدم أساسية التعليم حتى عند الطلّاب أنفسهم، ناهيك عن انشغال الأهل طيلة النهار بتأمين لقمة العيش وتحضيرها، كيف يمكن ﻹنسان يصارع ﻷجل البقاء -في فئات باتت اليوم أكثر فقرًا وانسحاقًا من أي وقت مضى- أن يكترث إلا للقمته. وربما كان هذا الأمر السبب في انتشار الزيجات المبكرة بشكل كبير جدًا، كأحد أشكال رفع العبء عن أب فقير بتزويج طفلته.
سيادة السلاح والشعور بأن الأقوى قادر على فعل كل شيء ولو كان على باطل، أمر يشارك بكل تأكيد في تكبيل المجتمع فكريًا وجعله يتراجع حضاريًا وثقافيًا بشكل كبير، فالسلاح اليوم هو من يقول كلمته، ولذا فقدت الكلمة والكتاب أهميتهما بشكل واضح أمام سطوة السلاح.
التفكير غير العلميّ، تهميش الثقافة، الإيمان بالخرافات، سيادة القوة لا المنطق، هي أمور نذكرها لنسلط الضوء عليها ونعالجها، لكني أرى أنها طبيعية تمامًا في ظلّ بيئة صارت خصبة جدًا لهذه الممارسات الفكرية والسلوكية، بل لعلها كانت موجودة فينا بنسبة ما والآن باتت نتائجها تظهر بشكل واضح على أرض الواقع.
لا يمكن بحال من الأحوال أن نغيّر هذه الممارسات ما لم نسع لتغيير وتحسين الوضع المعيشي لحاضنتها الشعبية، الأمر ليس إذا مجرد جوع وحاجة لقوافل غذائية تنقذ ما بقي من الأرواح، بحاجة نحن أيضًا لقوافل ثقافية فكرية مدعّمة تنقذ العقول، تعيد للإنسان إيمانه بنفسه وقدرته وأحقيته في العيش الكريم.