عنب بلدي – العدد 110 ـ الأحد 30/3/2014
لم تقتصر كوارث الحرب على تدمير معظم المدن والقرى السورية، بل طالت النفوس حتى، ولأن الأطفال هم الشريحة الأكثر هشاشة، كان لهم نصيب الأسد من تلك الكوارث، ولعل أكبرها سلخهم من عالم طفولتهم وتقمصهم حياة «الكبار».
وليد، ذو الستة أعوام، منذ بداية الثورة، كان يحلل نشرات الأخبار التي يسمعها مع والده وجده على رأس كل ساعة، منذ أيام المظاهرات السلمية والقصف «الخفيف» نسبيًا، فوليد، كان يسارع بسرد جمل لا يكاد يفقهها، على شاكلة «هلأ الأمن رح يداهمونا» و»بشار ليش عم يقصفنا؟ يعني ما بيحبنا؟» ولم تنته هذه التحليلات الطفولية عند هذا الحد، بل تفاقمت لتتحول إلى كره للجيش على الحواجز وعدم الرد عليهم عند الحديث معه أو حتى تخوف أمه عند مرورها على حواجز النظام من أن يفلت منه لسانه بتحية الجيش الحر مثلًا أو على الأقل ألا يشتم بشار.
الطفولة التي حرموا منها تجسدت بترك الألعاب التي اعتادوا عليها واستبدالها بألعاب الحرب، إما بلعب دور الأمن يقوم بمداهمة المنازل أو لعبة المتظاهرين والشبيحة أو حمل أي عصا أو أداة تشبه البندقية وقتل الشبيحة. أو حمل البعض على الأكتاف شهداء يقومون بتشييعهم، وهذه التحولات الخطيرة تترك في نفوسهم خدوشًا قد لا يسعفها الزمن.
قد تكون ألعاب الكبار التي يمارسها الأطفال اقل خطورة من الأدوار التي فرضت على الكثير من الأطفال في ظل الظروف القاسية، فكثيرون باتوا معيلين لأسرهم بعد غياب الأب إما شهيدًا أو معتقلًا أو مفقودًا أو حتى مقعدًا. واضطر كثير من الأطفال للعمل في سن مبكرة جدًا لتأمين لقمة العيش لعوائلهم النازحة. وبالتالي ماتت طفولتهم التي كانت تحلم بدراجة هوائية أو حتى إصبع طبشور يلونون به جدران حائط ما في طريقهم.
نايف، الطفل السوري الحلبي، الذي بات رمزًا للرجولة، من استفاق من تحت الأنقاض فاقدًا أربعين فردًا من أسرته، لم يذرف دمعة على فراق أهله من هول المصاب بل وقف أمام عدسات الكاميرا وألقى خطابًا عجز عن إلقائه جهابذة السياسة، ذاك الطفل الذي دفعته براميل الموت لأن يردم طفولته تحت أنقاض منزله مع جثث عائلته ليتحول إلى رجل حاقد غاضب، طبع ذاك المشهد القيامي في ذاكرته أقسى المشاهد التي سلبت منه أغلى ما يملك، أسرته وطفولته.
أما مقاعد الدراسة التي غاب عنها طلاب سوريا منذ ما يزيد عن عامين، لم تسلب من الأطفال طفولتهم فحسب، بل دمرت مستقبلهم أيضًا، والخوف كل الخوف من جيل أميّ جاهل لا يعلم من هذه الحياة سوى لغة القتل والسلاح، لغة اكتسبها منذ نعومة أظفاره لتكبر معه يومًا فيوم، وفي النهاية لن تزهر إلا عنفًا إن لم تعالج قبل فوات الأوان.
الحرب سلبت من الأطفال طفولتهم، لكن من يتحمل المسؤولية أيضًا من ترك هؤلاء الأطفال يفقدون طفولتهم وبرائتهم وهم ينظرون دون الحراك لمد يد العون لهم لإعادة شيء ولو يسير من طفولتهم التي استبيحت على مدار ثلاث سنوات، والأمل الآن كبير في استعادة تلك الروح البريئة قبل فوات الأوان وقبل أن يتمرد الرجل الذي يكبر داخل تلك الأرواح الطفلة فتكون كارثة تفوق الدمار المادي الذي لحق بكامل البلاد من أقصى جنوبها إلى أقصى الشمال.