عنب بلدي – سما نعناعة
“إذا كنت تملك منزلًا في حلب وغادرت لسببٍ ما، فأمامك خياران، إما البيع أو تركه للشبيحة والأمن، ليسرحوا ويمرحوا فيه”، يقول أبو عبدو، وهو مواطن حلبي، رفض ذكر اسمه الصريح لأسبابٍ أمنية.
لم يكن أهالي حلب يتوقعون أن منازلهم ستكون فريسة للشبيحة ورجال الأمن، فلا خيارات أمام من يتلقى تهديدًا سوى البيع أو القبول بتسليم المنزل.
وبعد تردّد إشاعات حول قضية “تشبيح المنازل” في حلب، بعد استرجاعها من قبل النظام السوري، أواخر العام الماضي، تواصلت عنب بلدي مع مصادر محلية من مختلف مناطق المدينة، للوقوف على تفاصيل القضية وآثارها.
لجنة تقصٍّ من البلدية
“عبد الكريم أ” (54 عامًا) روى قصته مع “شبيحة المنازل” لعنب بلدي، وكيف استحوذوا على منزله في حي الزبدية، شبه المهدّم، في المنطقة الشرقية من المدينة، لعدم قدرته على إثبات ملكيّته، في حين يضطر الآن للعيش في بيت أجرة مجددًا.
عبد الكريم تاجر من سوق المدينة القديمة، حيث تهدّم محلّه جراء الاشتباكات في المنطقة منتصف عام 2012، وهو غير قادر على مزاولة أعماله فيه ريثما تنتهي عملية إعادة الإعمار المرتقبة.
وقبل نحو أربعة أشهر عاد إلى منزله في “الزبدية”، بعد أن نزح مؤقّتًا إلى منطقة حلب الجديدة، ليتفاجأ منذ حوالي أسبوعين بوجود ثلاثة أشخاص أمام باب بيته، قالوا إنهم “لجنة تقصٍّ من البلدية”، وأخبروه بضرورة المغادرة في حال لم يتمكن من إثبات ملكية منزله، رغم أنه أبلغهم بسرقة كل أوراقه الثبوتية جراء النزوح.
وعلم عبد الكريم لاحقًا بعد أن عاد إلى حلب الجديدة، أن عائلة أخرى تقطن في منزله الآن، وأن اللجنة التي زارت منزله، لم تكن على علاقة مع البلدية “ولا هم يحزنون”، وفق تعبيره، فوكّل محاميًا لمتابعة قضيته واسترداد بيته إن أمكنه ذلك، معتبرًا أنه “سُرق من قبل الشبيحة”.
حتى المناطق الغربية
يرى البعض أن عملية “تشبيح المنازل” حكرٌ على المناطق الشرقية من المدينة، التي خضعت نهاية العام الماضي للنظام السوري، كنوعٍ من الانتقام من أهالي سكان هذه المناطق، إلا أن الظاهرة تشمل المناطق الغربية والأحياء الراقية أيضًا.
ووفق ما أخبر أبو عبدو (29 عامًا) عنب بلدي، فقد شهد تعرّض جاره لعملية مشابهة في حي الفرقان، حيث أُعلم بضرورة مغادرة منزله خلال 24 ساعة لعدم تمكّنه من إثبات الملكيّة.
وحي الفرقان يعدّ أحد أهم أحياء حلب الراقية، بالقرب من المدينة الجامعية وكليات الطب والاقتصاد والآداب والهندسة المعمارية، وسط المدينة.
ولكن على خلاف قصة عبد الكريم، كان جار أبو عبدو قريبًا لصاحب البيت، المقيم في أوروبا حاليًا ولم يكن المالك الأصلي.
وبدأت قصة الجار ببلاغ من أحد “الشبيحة” القاطنين في البناء نفسه، لعلمه أنه ليس صاحب البيت الأساسي، فجاء عناصر من الأمن وطالبوه بإثبات ملكية المنزل، أو وجود عقد إيجار مثبت بحضور صاحب المنزل أو وكيله، وإلا عليه المغادرة خلال 24 ساعة، وهو ما حصل فعلًا.
وهو ما أكده أبو حسام (23 عامًا) من منطقة الفردوس شرقي حلب، ورفض ذكر اسمه لأسباب أمنية، موضحًا أن هذا السلوك بات ينتشر في جميع الأحياء الشرقية.
يتساءل أبو عبدو، كيف يمكن للشخص القاطن إثبات ملكية المنزل الذي لا يملكه، أو إحضار صاحب البيت الذي هو خارج سوريا أساسًا؟ معتبرًا أن الغرض من وراء هذه الإجراءات “الضغط على أصحاب المنازل لبيع بيوتهم إلى جهات تابعة للشبيحة وبالتالي للمسؤولين من ورائهم، إذ يصعب عودتهم إلى البلد بعد أن طلب معظمهم اللجوء خارجًا”.
العقد شريعة المتعاقدين
وتعقيبًا على الناحية القانونية للظاهرة، وهل يمكن لأي جهة كانت أن تُخلي منزلًا من سكانه بحجة أنهم لا يملكون أوراقًا تثبت ملكيّته “حفاظًا على الأمن”، تواصلت عنب بلدي مع الخبير القانوني المحامي عبد الرزاق علوش، الذي أوضح التفاصيل القانونية لقانون الإيجار رقم 20، في آخر تعديل له عام 2015، مشيرًا إلى أنه لا يمكن إخلاء أي منزل مادام لم يخالف القانون العام، ولا يوجد شكوى من أحد الأطراف.
عقد الإيجار هو اتفاق ثنائي يعقد بين طرفين للانتفاع بالمأجور لمدة محدّدة مقابل بدل إيجار ضمن شروط متّفق عليها، مع عدم مخالفتها للنظام العام، أما في حالات الإخلاء، فهي منصوص عليها بالقانون ذاته، والمبدأ العام هو العقد شريعة المتعاقدين، ففي حال عدم وجود شكوى من أيّ الفريقين، فالعقد ساري المفعول، وأي تدخّل من طرف ثالث يعتبر إخلالًا وتجاوزًا في حق التملك المنصوص عليه في الدستور السوري.
ظلم على الطرفين
وظاهرة تشبيح المنازل في حلب ليست غريبة، إذ يعاني منها الأهالي، سواء كانوا في الأرياف أو في مركز المدينة، وهنا تحكي رفاه سلطان، الملقبة بـ “أم عمار” (67 عامًا)، والتي اضطرت للمغادرة للعيش في تركيا مع عائلتها، كيف أنها انتقلت إلى شارع بغداد بجوار بلدة حريتان، قبل نحو عامين من بدء الثورة في سوريا، وتعرضت إلى محاولة سرقة منزلها من قبل إحدى الجهات التي كانت تحسب نفسها على فصائل المعارضة، ويعرف قائدها بأنه من سكان المنطقة، واسمه مصطفى جبارة (أبو محمود)، مشيرةً إلى أنه كان متعهد بناء المشروع السكني الذي تعاملت معه قبل الحرب.
وقدم أبو محمود جبارة، الذي شكل لنفسه فصيلًا وحسبه على المعارضة، برفقة ما أسماه “هيئة شرعية”، للاستحواذ على منزلها وإسكان عناصره فيه بحجة أنهم “يدافعون عن عرض المنطقة”، وفق قولها.
لذا أحضرت رفاه أحد معارفها للجلوس في المنزل حفاظًا عليه وعلى أثاثه، واضطرت لإحضار أكثر من عائلة، إلى أن انتزع المنزل منها في نهاية المطاف.
وعلمت عنب بلدي من ذكي دهان، الذي كان يقطن المبنى نفسه، وهو بروفسور في جامعة بلجيكية عاد إلى سوريا قبل الحرب، وغادرها نهائيًا منذ حوالي سنة ونصف تقريبًا، أن “جبارة، احتل المنزل، وعمل على نهب ما استطاع من المنطقة، ثم هرب مع ولديه وعائلته إلى السويد وطلب فيها اللجوء قبل نحو عام من الآن”.
والبروفسور الذي يملك الجنسية البلجيكية، التقى بجبارة في أوروبا مع عائلته مصادفةً، فأخبر السلطات البلجيكية عنه، على ما قاله لعنب بلدي.
سرقة عينك كنت عينك
روت هديل شاهين (16 عامًا) قصتها وأمها لعنب بلدي، بعد أن منعهما حاجز أمني تابع للنظام من الدخول إلى منزلها في حي قهوة الشعّار، وسط حلب وبالقرب من منطقة “المدينة” القديمة، لعدم قدرتها إثبات أن المنزل وما فيه يعود لهما، إذ نزحتا عام 2015، بعد أن قتل أخاها تحت أنقاض البيت نفسه.
عادت هديل بعد يومين لتجد أن محتويات المنزل سرقت ولم يبقَ منها شيء يذكر، وكأنها “سرقة عينك كنت عينك”، على حد وصفها.
وتزامنت الحادثة مع عودة بعض العائلات النازحة من المناطق الشرقية والتابعة للمعارضة، فأخذت هديل تتوسل لعناصر الحاجز للسماح لها ولأمها العيش مجددًا في منزلهما المهدّم جزئيًا، إلا أنهما مُنعتا بالقوة، الأمر الذي تسبب بانهيار كلّيّ للأم.