شهدت بداية العقد الماضي تطورًا لافتًا في الأدوات التي اعتمدتها الأحزاب الكردية السورية في حراكها السياسي، وذلك بسبب التراكمات التي نتجت عن إرث سياسي استمر منذ العام 1957، إبان تأسيس أول حزب سياسي كردي في سوريا.
وأسهمت التغييرات الحادة في الخارطة السياسية التي شهدها الإقليم المحيط بسوريا في دفع الأحزاب الكردية إلى الخروج من دائرة العمل السياسي السري الذي ترسخ خلال مرحلة حكم حافظ الأسد، فبدأت تلك الأحزاب بأولى الخطوات الجديدة بقرار التظاهر أمام مجلس الشعب السوري في العام 2002 بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان، بقرار من حزب “يكيتي” الكردي الذي أعلن عن تأسيسه في العام 2000.
“انتفاضتان” كرديتان في عهد بشار الأسد.. وإعلان معارضة “رسمي”
يعتبر الكثيرون من الكرد أن قرار تنظيم أول مظاهرة حقوقية في سوريا بمثابة نقلة نوعية وجذرية مهدّت لسلسلة من التغيرات التي رافقت تطور العقل السياسي الكردي، إثر تضافر الكثير من الظروف الداخلية والخارجية، إذ كانت البلاد تمر بمرحلة شبه انتقالية تولى فيها الأسد الابن (بشار) سدة الحكم بعد رحيل والده، وسعى خلال السنوات الأولى من حكمه إلى تقديم خطاب مختلف، يظهر وجهًا جديدًا غير ذلك الذي عرفت به سوريا خلال حقبة الأسد الأب، لكن بشار سرعان ما أخلف بالوعود التي طرحها في خطاب القسم، وأعاد لسوريا وجهها البوليسي مجددًا، بعد أن تمكن من تثبيت دعائم حكمه.
وعلى المستوى الخارجي شكلت هجمات الحادي عشر من أيلول في الولايات المتحدة الأمريكية تغييرًا جذريًا في السياسة الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط، وظهرت مشاريع سياسية جديدة كمشروع “الشرق الأوسط الكبير”، وما رافقه من تحرك عسكري أمريكي في أفغانستان ومن ثم العراق والإطاحة بحكمي حركة طالبان في الأولى وحزب البعث في الثانية.
عضو المكتب السياسي في حزب “يكيتي” الكردي في سوريا، سليمان أوسو، يقول في هذا الصدد إن العام 1992 هو بداية للتاريخ الجديد للحركة السياسية الكردية، حين قاد حزب “يكيتي”، الذي نشأ عن وحدة سياسية بين عدّة أحزاب حينها، حملة ملصقات على الجدران في المدن الكردية ودمشق بمناسبة الذكرى الثلاثين للإحصاء الاستثنائي في محافظة الحسكة، والتي انتهت باعتقال العشرات من القياديين والناشطين الكرد، ومحاكمتهم في محكمة أمن الدولة بدمشق، وما رافقها من مظاهر احتجاجية أمام مبنى المحكمة.
يضيف أوسو، في حديثٍ إلى عنب بلدي، أن “شكل أدوات النضال الكردية تغيّر مع المظاهرة الأولى التي دعا إليها (يكيتي) أمام مجلس الشعب بمناسبة اليوم العالمي للإعلان عن حقوق الإنسان في 10 كانون الثاني 2002، لتتالى بعدها الاحتجاجات السلمية التي تميزت بازدياد حجم المشاركة الجماهيرية وعدد الأحزاب المشاركة في تلك الاحتجاجات، ما شكل أيضًا حافزًا أمام المعارضة العربية للمشاركة فيها، إذ بلغت هذه الاحتجاجات ذروتها في انتفاضة آذار عام 2004، حين افتعل النظام حادثة الملعب في القامشلي لاستفزاز الشارع الكردي، من خلال الإساءة للرموز الكردية، ومارس حينها القمع وأبشع الأساليب ضد المتظاهرين وراح ضحيتها عشرات الشهداء”.
وذكر السياسي الكردي أن رد فعل الشعب الكردي “كان قويًا”، إذ عمت الاحتجاجات كافة المدن الكردية والمدن الكبرى كحلب ودمشق، “غير أن النظام تمكّن من إيهام الشارع العربي من خلال التضليل الذي مارسه واللعب بالعواطف القومية، ما أدى إلى عدم مشاركة بقية السوريين في الانتفاضة”، مؤكدًا أن الأحزاب السياسية الكردية تعتبر “انتفاضة آذار عام 2004، بداية حقيقية للثورة السورية”.
وعرّج أوسو على حادثة اغتيال الشيخ معشوق الخزنوي عام 2005، فاعتبرها بمثابة “انتفاضة”، شكلت رد فعل قوي لدى الشارع الكردي، لافتًا إلى تفاعل الحركة السياسية الكردية بشكل فعال مع المنتديات التي تأسست خلال ما يعرف بحقبة “ربيع دمشق”، في بداية العقد الماضي، معتبرًا تلك المنتديات بداية التعارف الحقيقي بين المعارضة السورية والحركة الكردية.
كما أشار عضو المكتب السياسي في حزب “يكيتي” إلى انضمام العديد من الأحزاب الكردية إلى “إعلان دمشق” الذي تأسس بمشاركة العديد من القوى المعارضة، لافتًا إلى أن الكثير من تلك القوى “لم تتمكن من التخلص من الخطاب القوموي الذي فرضه النظام على عقول العديد من السوريين، ما منع تلك القوى المعارضة من تفهّم جوهر القضية الكردية واعتبرتها مجرد قضية مواطنة فقط، متناسية بأن القضية الكردية هي قضية شعب يعيش على أرضه التاريخية”.
كسر الطوق الأمني
شهدت بداية الألفية الثالثة انعطافًا مهمًا في تاريخ الأشكال النضالية للحركة الكردية في سوريا، وكان أول مؤشرات تلك التغيرات هو التظاهر أمام مجلس الشعب 2002، قبل أن يتكرر الأمر خلال السنوات اللاحقة، وفي هذا الإطار يرى المحامي الكردي فيصل بدر، الذي يقيم حاليًا في ألمانيا، وهو قياديٌ سابق في حزب “يكيتي”، أن ذلك كان “انعطافًا مهمًا في أشكال النضال من قبل الحركة السياسية الكردية، إذ كسر الكرد، ولأول مرة، الطوق الأمني الذي فرضه النظام على الحركة السياسية والذي كان يمنع أي نشاط علني عليها والخروج إلى الشارع. وحقيقة فوجئ النظام بإصرار منظمي تظاهرة 2002، على القيام بذلك بالرغم من الضغوط الهائلة التي مورست عليهم من كل حدب وصوب، ناهيك عن إطلاق الوعود الكاذبة بغية إقناعهم بالرجوع عن قرارهم”.
مايزال المحامي يتذكر اللحظات الأولى من تلك التظاهرة، وحالة الترقب لما سيقدم عليه النظام ضد المتظاهرين، على ما يقوله لعنب بلدي، لكنّ الظروف ساعدت في الأمر، فقد كان النظام تحت الأنظار والضغوط، سواء في الداخل، لجهة المطالبة بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، أو من الخارج كالشراكة الأوروبية المتوسطية وضغوط الغرب على النظام لتغيير سلوكه على مختلف المسارات، وتم انتزاع باب المبادرة من النظام ليبدأ حراكًا سلميًا في الشارع لم يقتصر على حزبٍ لوحده بل انضمت إليه أحزاب أخرى كردية ولاحقًا أحزاب سورية معارضة.
المعارضة و”أصدقاء” الكرد
في العام 2004 اندلعت “انتفاضة قامشلو”، على خلفية مباراة لكرة القدم بين فريقي الجهاد والفتوة، واختار حينها النظام الحل الأمني ضد المتظاهرين الكرد، ما أودى بحياة أكثر من 35 شابًا ومئات الجرحى وآلاف المعتقلين، بعد أن عمت الاحتجاجات كل المناطق الكردية في البلاد إضافة إلى حلب ودمشق، وكان لذلك أثرٌ على الوعي الجمعي الكردي والموقف العام من النظام الحاكم، وعلى طبيعة العلاقات مع المعارضة السورية.
ويعتقد المحامي فيصل بدر أن الاحتكاك بين الجمهورين كان مدبرًا، بقصد قمع الكرد وحركتهم ووضع حدّ لنشاطهم العلني الذي لم تنفع معه الاعتقالات وأساليب الترغيب والترهيب، وخاصة أن هذا الحراك ترافق مع حوارات بين الأحزاب الكردية والسورية على مختلف مشاربها، ولعبت المنتديات السياسية والثقافية دورًا رئيسيًا فيها.
شكل ذلك شعورًا بالخوف لدى النظام وأراد بذلك أن يضرب عصفورين بحجر، بحسب تعبير المحامي، وذلك بإرهاب الحركة الكردية التي كانت تتمتع بنفوذ كبير بين الجمهور. كما لعب الوضع السياسي في كردستان العراق والاعتراف بالإقليم الكردي هناك في زيادة مخاوف النظام أكثر، ليدفعه إلى قطع الطريق أمام أي تفاهمات جدية بين الحركة السياسية الكردية وبين الحركة السياسية على مستوى البلاد.
“لكن الانتفاضة التي انطلقت في اليوم التالي، والتي امتدت لتشمل عموم أرجاء كردستان سوريا وبقية مناطق وجود الكرد في الداخل والمهجر، كانت ستطول أكثر لولا توافق ما سمي آنذاك بمجموع الأحزاب الكردية على التهدئة لاعتبارات خاصة بكل طرف”، أضاف المحامي فيصل بدر، موضحًا “حقيقة كان رد الشعب الكردي مزلزلًا بالرغم من إرهاب النظام وقتله لعشرات المتظاهرين واعتقال الآلاف في الأيام الأولى إضافة إلى مئات المصابين، ما جعل النظام في حالة تخبط وإرباك وانعكست النتائج التي يبتغيها عليه، سواء لازدياد نفوذ الأحزاب الكردية بين الناس واستمرارها في نضالها العلني، وكذلك لجهة ازدياد التواصل والحوار بين الكرد وبقية القوى والمكونات السورية ومواقف القوى الدولية، وخاصة أمريكا المنددة بممارسات النظام. لقد اكتسب الكرد المزيد من الأصدقاء على خلاف ما كانت تشتهيه رياح النظام”.
لفت نظر الغرب يُغضب النظام أكثر
واستطاعت بعض الأحزاب خلال العقد الأول من القرن الحالي تأسيس علاقات دولية محدودة مع عدّة سفارات لدول غربية، بينها أمريكا وبريطانيا وفرنسا وغيرها، ما كرّس صورة الحراك الكردي العلني، مقابل تحفظات أكبر من قبل النظام السوري.
كان هناك تواصل جيد بين بعض الأحزاب الكردية وبعض الناشطين المستقلين أيضًا وبين السلك الدبلوماسي الغربي في دمشق، فقد جذبت تظاهرات الكرد وانتفاضتهم انتباه القوى الدولية والرأي العام الدولي والسوري للكرد وللمسألة الكردية، وإن كان هذا الانتباه يندرج بالنسبة للغرب في العموميات وعلى الغالب ضمن إطار المفاهيم الحقوقية وبمقدار ارتباطه بالوضع السياسي العام في البلاد.
وأكّد فيصل بدر أن هذه العلاقات شكلّت دفعًا معنويًا أكثر من أن يكون ذا طابع مؤثر في خيارات الحركة الكردية، ولكنه فتح أمامها آفاقًا أوسع ومجالًا للحركة، مردفًا “لم تكن بذلك التأثير الذي يشكل الانعطافة، لأن القوى الغربية لم تكن تملك تصورات ومخططات واضحة (وأخشى أنها ماتزال) تجاه الكرد في كردستان سوريا، ولكنها أسهمت في إيصال قضيتهم إلى مواقع القرار في هذه الدول على الأقل، عدا عن أن هذه العلاقات أكسبت الكرد العديد من الدبلوماسيين وحسب علمي يزداد تأثيرهم يومًا بعد يوم”.
كان النظام ينظر بغضب إلى هذه العلاقات ويضغط باتجاه فرملتها، ولكنه كان مضطرًا لغض الطرف عنها، نظرًا للظروف السائدة آنذاك، لا سيما بعد إسقاط النظام العراقي من قبل الأمريكيين وحلفائهم، وانتعاش القضية الكردية على خلفية ذلك وتمتع الكرد بإقليم فيدرالي معترف به، وكذلك محاولته إرضاء الأوروبيين لقبوله ضمن منظومة الشراكة الأوروبية المتوسطية والضغوط المتزايدة عليه لجهة دعمه للإرهاب.
تراجعت تلك العلاقات في شكلها العلني بعد أن فقد النظام الأمل في الشراكة مع أوروبا، ليعتقل المعارضين وخاصة الشخصيات الرمزية، ولكنها لم تنقطع.
“إعلان دمشق” وخلاف عربي- كردي
شهدت الفترة بين العام 2000 ولغاية العام 2011 تناميًا في العلاقات بين أطراف الحركة الكردية المختلفة من جهة وتشكيلات المعارضة السورية، وتوّجت بعض تلك العلاقات بتوقيع وثائق سياسية لأول مرة بين الجانبين، كإعلان دمشق، إلى جانب المنتديات أو ما يعرف بـ “ربيع دمشق”.
وأوضح بدر أن أول وثيقة تم التوقيع عليها كانت وثيقة تأسيس هيئة التنسيق الوطنية للديمقراطية وحقوق الإنسان، التي سبقت تأسيس إعلان دمشق، الذي بني على أنقاض هذا الإطار، وقد كان أشمل وأكثر فعالية.
لكن، وبحسب رؤية المحامي، فإن الاتجاه القومي العروبي المتمثل آنذاك بالتجمع الوطني الديمقراطي، كان السبب في إنهاء إعلان دمشق، بسبب إنكاره لما تم الاتفاق عليه، بوجوب إيجاد حل ديمقراطي عادل للقضية الكردية، وطالب وقتها بتفصيله على قاعدة رفض أي اعتراف بالجغرافيا في هذا الشأن، إذ تم نسف مصطلح حل القضية الكردية من خلال شرحه والدخول في تفاصيله، بحيث أصبحت قضية مواطنة ليس إلا، بل إن الاتجاه العروبي ازداد فيه واقترن بنزعة دينية إسلامية أيضًا من خلال التوضيح الذي أصدره قادة الإعلان لاحقًا هو أن سوريا جزء لا يتجزأ من الوطن العربي والتأكيد على الهوية الإسلامية للبلاد.
إعلان دمشق للتغيير الديمقراطيصدر إعلان دمشق في 16 تشرين الأول من العام 2005، بحسب نص وثيقة الإعلان، كـ “جهد مشترك بين تشكيلات مختلفة من المعارضة السورية بشقيها العربي والكردي، ردًا على سياسات النظام السوري واحتكاره للسلطة وتأسيسه نظامًا شموليًا فئويًا أدى إلى انعدام السياسية في المجتمع وخروج الناس من دائرة الاهتمام بالشأن العام، ما أورث البلاد هذا الحجم من الدمار المتمثل بتهتك النسيج الاجتماعي الوطني للشعب السوري والانهيار الاقتصادي والأزمات والعزلة الخانقة التي وضع النظام البلاد فيها نتيجة سياساته التي بنيت على أسس استنسابية وليس على هدى المصالح الوطنية العليا”. وصف الموقعون على الإعلان حينها نص الوثيقة بأنها “مهمة تغيير إنقاذية، تخرج البلاد من صيغة الدولة الأمنية إلى صيغة الدولة السياسية، وتمكن الشعب من الإمساك بمقاليد الأمور والمشاركة في إدارة شؤونها بحرية”. وطالب الإعلان بإقامة النظام الوطني الديمقراطي ونبذ الفكر الشمولي والقطع مع جميع المشاريع الإقصائية والوصائية والاستئصالية ونبذ العنف السياسي. واعتبر الإسلام المكون الثقافي الأبرز في حياة الأمة والشعب، واعتماد الديمقراطية كنظام حديث عالمي القيم والأسس يقوم على مبادئ الحرية وسيادة الشعب ودولة المؤسسات وتداول السلطة من خلال انتخابات حرة ودورية، وصياغة دستور ديمقراطي عصري يجعل المواطنة معيارًا للانتماء ويعتمد التعددية وتداول السلطة سلميًا وسيادة القانون في دولة يتمتع جميع مواطنيها بذات الحقوق والواجبات بصرف النظر عن الجنس أو الدين أو الإثنية أو الطائفة أو العشيرة. كما دعا إعلان دمشق إلى إيجاد حل ديمقراطي عادل للقضية الكردية، بما يضمن المساواة التامة للمواطنين الكرد السوريين مع بقية المواطنين من حيث حقوق الجنسية والثقافة وتعلم اللغة القومية وبقية الحقوق الدستورية والسياسية والاجتماعية والقانونية، على قاعدة وحدة سوريا أرضًا وشعبًا، ولا بد من إعادة الجنسية وحقوق المواطنة للذين حرموا منها وتسوية هذا الملف كليًا. كما طرح الإعلان أفكارًا للوصول إلى ما دعا إليه من خلال فتح القنوات لحوار ديمقراطي وطني شامل ومتكافئ بين جميع مكونات الشعب السوري وفئاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وتشجيع المبادرات للعودة بالمجتمع إلى السياسية وإعادة اهتمام الناس بالشأن العام، وتشكيل اللجان والمجالس والمنتديات والهيئات المختلفة محليًا وعلى مستوى البلاد لتنظيم الحراك العام الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، والتوافق الوطني الشامل على برنامج مشترك ومستقل لقوى المعارضة يرسم خطوات مرحلة التحول ومعالم سوريا الديمقراطية. ووقع إعلان دمشق حينها عدّة قوى سياسية أبرزها: التجمع الوطني الديمقراطي في سوريا، التحالف الديمقراطي الكردي في سوريا، لجان إحياء المجتمع المدني، الجبهة الديمقراطية الكردية في سوريا، حزب المستقبل (الشيخ نواف البشير)، إضافة إلى عدد من الشخصيات المستقلة والوطنية ومنها: رياض سيف، جودت سعيد، عبدالرزاق عيد، سمير النشار، فداء أكرم الحوراني، عادل زكار، عبدالكريم الضحاك، هيثم المالح ونايف قيسية. |
اقتراب من النظام أم سعي لإسقاطه؟
يرى البعض أن النظام السوري حاول امتصاص الصدمة التي نتجت عن انتفاضة 2004، من خلال إفساح المجال أمام الأحزاب الكردية للتظاهر والاعتصام أمام دوائر سيادية في دمشق بدون كُلَف باهظة، على الرغم من أنه لم يكن مستعدًا لإنجاز أي انفتاح سياسي حقيقي في البلاد.
لكن المحامي بدر رأى في هذا التحليل “تسطيحًا شديدًا”، فالأحزاب الكردية بادرت إلى التظاهر قبل الانتفاضة بعامين ولكن هذه التظاهرات اكتسبت طابعًا أكثر قوة بعد الانتفاضة لناحية المشاركة الجماهيرية، والنظام كان يمارس “تقية” مع الكرد بسبب الظروف المحلية والإقليمية، ولم يألُ جهدًا منذ استيلائه على السلطة في احتواء الحركة الكردية، ولكنه لم ينجح تمامًا في احتواء جميع هذه الأحزاب بل فشل في احتواء ما كان يعتبرها أقرب إليه، فقد كان تعامل النظام فظًا مع مظاهرات الأحزاب الكردية ولكن كانت هناك حدود يضعها هو حسب الظروف المحيطة، إضافة إلى الوجود الأمريكي على حدوده والحراك اللبناني المضاد والضغوط الغربية عليه، كل ذلك ترافق مع صعود المد القومي الكردي إلى جانب الاهتمام الدولي بالكرد وقضيتهم.
يضيف بدر، “كانت هناك جهود من البعض لإفراغ هذه المظاهرات من مضامينها وإخضاعها للإجماع، وعندما انضمت أغلبية الأحزاب إليها كان الاتفاق على لافتة أو شعار مصدر إشكال في أحيان كثيرة، بل إن الشرطي المزروع في دواخل الكثيرين كان أكثر فعالية من شرطي النظام، وجميع القوى كانت لديها قناعة أن النظام لن يعطي أحدًا شيئًا، ولكن إسقاط النظام لم يكن مطروحًا من قبل الجميع، لقد كان وضعًا محيرًا ومربكًا وكانت الممارسة مبهمة والخطاب حمّال أوجه من قبل الجميع”.
عقد التحولات الجذرية في أدوات النضال الكردي
آلان حصاف
مثّل العام 2000 بداية لتحولات جذرية في تاريخ الحركة الكردية في سوريا، وجاء ذلك مرتبطًا بظروف موضوعية تمثلت بصعود بشار الأسد إلى سدة الحكم في سوريا خلفًا لوالده، والانفتاح المزعوم الذي دعا من خلاله الرئيس الجديد إلى بداية عهد جديد في البلاد، فكان الأمر مقدمة لانطلاق ما يعرف بربيع دمشق والمنتديات التي أسست في عدّة مدن سوريّة. إلى جانب ظروف ذاتية توضحت من خلال ظهور تيارين بارزين في الحركة الكردية، الأول دعا إلى الانتقال من مرحلة النضال السري من خلال تنظيم نشاطات ميدانية خارج الدوائر المغلقة والتحول نحو علنية العمل السياسي ولو بشكل نسبي، بينما دعا الثاني للحفاظ على الآليات النضالية التي اتسم بها تاريخ الحركة الكردية في سوريا طيلة عقود خلت. ويفسر كثيرون أن التناقض الذي ظهر بين التيارين يعود إلى الاختلاف الذي عصف بالحركة الكردية جراء حملة الملصقات التي تمت في تسعينيات القرن الماضي والتي أسفرت عن اعتقال عشرات السياسيين والناشطين الكرد.
أفرز الجدل الصاعد في صفوف الحركة الكردية حول التوجه نحو المزيد من الحراك العلني وتدوال مصطلح درج في تلك الفترة “الحقوق يجب أن تنتزع”، إلى ظهور حزب يكيتي الكردي في سوريا، ليقوم مع بداية العام 2002 بتنظيم أول مظاهرة أمام مجلس الشعب السوري في ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العاشر من كانون الأول بمشاركة نحو مئة عضو من الحزب إضافة إلى مستقلين وأعضاء من أحزاب أخرى. ووزع الحزب حينها بيانًا طالب فيه بحلّ ديمقراطي للقضية الكردية وإلغاء كافة سياسات التمييز بحق الكرد وبالديمقراطية والحريات العامة لعموم البلاد، وعلى إثر ذلك اعتقل النظام كلًا من حسن صالح ومروان عثمان، القياديين في حزب يكيتي، واللذين كانا يقودان المظاهرة، ليحاكما لاحقًا من قبل محكمة أمن الدولة العليا بالسجن خمسة أعوام قبل أن يخفض الحكم إلى عام وشهرين.
لم تمضِ أكثر من ستة أشهر حتى نظمت أربعة أحزاب كردية هي اليسار الكردي، الاتحاد الشعبي، الوحدة الديمقراطي الكردي، إضافة إلى حزب يكيتي، مظاهرة ثانية أمام مبنى منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف)، في دمشق بتاريخ 25 حزيران 2003، واعتقل إثرها سبعة من المشاركين، وتراوحت أحكامهم بالسجن بين عام وثلاثة أعوام.
تلاحقت الأحداث المفصلية التي ميّزت العقد الأول من الألفية الثالثة، إذ انطلقت “انتفاضة قامشلو” في 12 آذار من العام 2004، بعد مباراة ضمن مجريات الدوري السوري لكرة القدم بين فريقي الجهاد (القامشلي) والفتوة (دير الزور)، وتحول الصدام بين جمهوري الفريقين إلى انتفاضة شعبية عارمة شملت جميع المناطق الكردية إضافة إلى مدينتي حلب ودمشق. ولم ينتظر النظام كثيرًا حتى اتخذ قراره في استخدام الحل الأمني بمواجهة المتظاهرين السلميين، فقام محافظ الحسكة حينها، سليم كبول، بإطلاق الرصاصة الأولى من مسدسه الخاص كما أشيع في ذلك الوقت، باتجاه المتظاهرين. وأظهرت “انتفاضة قامشلو” اختلافات جديدة بين الأحزاب الكردية، إذ أسمت بعض تلك الأحزاب الانتفاضة بـ “أحداث القامشلي” أو “الهبة” أو “الفتنة”، رغم أن تلك الأحزاب شاركت تحت مسمى مجموع الأحزاب الكردية في تقليل الخسائر التي كان من المتوقع أن تكون مكلفة وباهظة، خاصة مع انسياق النظام وراء الحل الأمني الواسع، إذ خلفت أربعة أيام من الاحتجاجات نحو 38 شهيدًا، ومئات الجرحى وآلاف المعتقلين، إضافة إلى نشر جنود من الجيش السوري في معظم مدن الحسكة.
وكان من نتائج الانتفاضة الشعبية تنامي المد القومي الكردي وارتفاع منسوب الأمل بالتحرر وخاصة بعد سقوط النظام العراقي، وكسر حاجز الخوف وتزايد القبول الشعبي للتيار الداعي إلى تصعيد النشاطات النضالية العلنية المباشرة ضد النظام السوري.
لقد واجه النظام السوري المظاهرات بالرصاص الحي ونفّذ اعتقالات واسعة النطاق في مناطق مختلفة أثناء الانتفاضة، ومات منهم بعض الأشخاص تحت التعذيب في معتقلاته، لتخمد الانتفاضة خلال أيام.
ويرجع فشل الانتفاضة إلى سببين رئيسيين وفق متابعين كرد: أولهما القمع المفرط من جانب النظام السوري، وثانيهما عدم تضامن السوريين في بقية المناطق معها، لتترك وحيدة في مواجهة النظام الذي يملك سجلًا كبيرًا في قمع الاحتجاجات، إلى جانب اعتماد النظام على تسليح بعض العشائر العربية في المنطقة وإطلاق يدها في الأحياء الكردية وخاصة في مناطق مثل الحسكة، حيث تعرضت أحياء كردية كاملة للنهب والسلب بتشجيع وحماية من النظام وعناصره الأمنية.
ومن المفاصل الرئيسية في تلك الحقبة، كان سطوع نجم الشيخ معشوق الخزنوي، سليل العائلة الخزنوية (“خلفاء” الطريقة النقشبندية)، حيث شكلت الانتفاضة انعطافة في حياة الشيخ الخزنوي، فكرّس حياته منذ تلك الفترة من أجل “أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر”، ما شكّل حالة من التداخل بين الحراك القومي والمعارضة الكردية والتيار الداعي للقيام بمواجهات سلمية مباشرة مع النظام وفق الإسلام الذي دعا إليه الشيخ في خطبه، الإسلام الذي يقف في وجه الظلم ويدعو إلى مواجهة الظالم، والتي ترجمها في مقولته الشهيرة: “الحقوق لا يتصدق بها أحد، إن الحقوق تؤخذ بالقوة”.
لقيت دعوات الشيخ معشوق الخزنوي ولغته المباشرة ووجوده في مقدمة النشاطات المعارضة للنظام قبولًا شعبيًا واسعًا، ومن كافة شرائح المجتمع الكردي، إضافة إلى مشاركته في الكثير من الندوات والاجتماعات الإسلامية داخل سوريا وخارجها وعلى الفضائيات الكردية والعربية، كما أقام علاقات طيبة مع المنظمات الدولية والأوروبية الحقوقية والدينية من أجل إحلال حوار الأديان والحضارات محل صراعها، محاربًا في ذات الوقت التطرف والتكفيريين، وشارحًا القضية الكردية وعدالة المطالبة بإحقاق الحق ورفع الظلم عنهم.
كان نشاط الشيخ الخزنوي يؤسس لحراك شعبي خارج الأطر الضيقة التي كانت تعمل فيها الأحزاب الكردية، ما اعتبره النظام خطرًا داهمًا يستوجب إيقافه، فاختطف الشيخ الخزنوي في دمشق في العاشر من أيار من العام 2005 من قبل مجهولين، لتنطلق مظاهرات في القامشلي وفي دمشق للمطالبة بالكشف عن مصيره دعت إليها كافة الأحزاب السياسية الكردية والمعارضة العربية حينها، ليأتي خبر اغتيال الشيخ عبر جهة أمنية ادعت أنها وجدت جثة الشيخ الخزنوي في قبر قرب دير الزور. بعد معاينة الجثة من قبل ذويه تبين أن الشيخ تعرض إلى تعذيب شديد وبمختلف الوسائل ما أدى إلى مقتله بعد عشرين يومًا على اختطافه.
نقل جثمان الشيخ الخزنوي إلى القامشلي ملفوفًا بالعلم الكردي، ليستقبله في مدخل المدينة ما لا يقل عن نصف مليون مشيّع قدموا من كافة المناطق المحيطة بالمدينة. وفي الخامس من حزيران 2005 دعا حزبا يكيتي وحزب آزادي الكرديان إلى مظاهرة شاركت فيها العديد من المنظمات الكردية المستقلة أبرزها حركة الشباب الكرد تدعو للكشف عن حقيقة اغتيال الخزنوي، ليشارك في التظاهرة خمسون ألف متظاهر، واجههم النظام بالرصاص وأطلق يد المجموعات المسلحة لنهب ممتلكات الكرد عقابًا وترهيبًا.
يعتبر العقد الأول من الألفية الثالثة مرحلة مهمة في تاريخ الحركة الكردية، إذ شهدت تلك الفترة تغييرات جذرية في سبل النضال السياسي الكردي، كما اعتبرت فترة ذهبية في بناء علاقات واسعة بين الحركة الكردية والمعارضة السورية مستفيدة من التطورات الإقليمية والدولية المتسارعة التي أثرت على منطقة الشرق الأوسط عمومًا وسوريا خصوصًا.
حلقة خاصة عن الملف في راديو ARTA FM
أعد هذا الملف من قبل عنب بلدي بالتعاون مع راديو ARTA FM