عنب بلدي – العدد 109 ـ الأحد 23/3/2014
في الوقت الذي ارتفعت فيه وتيرة القصف بالبراميل على أحياء حلب المحررة، وارتفع معه عدد الإصابات بشكل مضاعف، ولم يعد بالإمكان نقل الأدوية والمعدات من المعبر الفاصل عن أحياء حلب التابعة للنظام، تسهم المنظمات الداعمة للهيئات والمجالس الطبية في حلب المحررة -والتي يُفترض بها أن تكون «ثورية»- في زيادة المشهد مأساوية، لتأتي هجرة الأطباء إلى خارج حلب المحررة خلال الفترة الماضية، وتزيد الطين بلة.
ويقول يوسف، وهو ناشط في المجال الطبي: «السبب هو التفاوت الكبير جدًا بين رواتب أطباء حلب المدينة عنها خارج حلب، فالرواتب تزداد كلما اقتربنا أكثر من الحدود التركية حيث يصل راتب الطبيب خارج حلب بدوام 3 أيام فقط في الأسبوع إلى 2000 دولار بينما في حلب يكون راتب الطبيب المقيم لمدة 24 ساعة يوميًا باستثناء يوم واحد عطلة حوالي 800 دولار فقط، ناهيك عن ارتفاع وتيرة القصف والترويج لقرب حصار حلب من قبل قوات النظام، هذه الأسباب مجتمعة دفعت الأطباء للهجرة مع عائلاتهم إلى الخارج».
وعن أسباب هذا التفاوت في الرواتب، قال أبو عميرة، الطبيب في مشفى ميداني يتبع للمجلس الطبي بحلب: «إنها سياسات الجهات الداعمة التي تحاول أن تُخلي حلب من الناشطين والأطباء… كان الراتب سابقًا -رغم قلّته- يسدّ حاجة الطبيب وبقية العاملين في الكادر الطبي بحلب، ولكنه الآن لا يكفي لإعالة عائلاتهم التي نزحت إلى تركيا، ما سبّب هجرة هذه الكوادر للخارج. لقد صرنا نعمل في مشفانا الآن بنصف الكادر فقط وبنفس الرواتب القليلة مع زيادة حجم العمل والضغط بسبب المجازر وأعداد الضحايا الكبيرة». وأضاف أن المجلس الطبي في حالة ضعف وعدم قدرة على فرض نفسه أمام الجهات الداعمة، ما جعلها تتحكم به كيفما تشاء.
وفي هذا الصدد أوضح عمر أبو غيث، الناشط في المجال الطبي، أن حجة الجهات الداعمة هي عدم توفّر شهادات علمية للعاملين في الكادر الطبي داخل حلب، رغم أن 80% منهم أطباء في السنوات الأخيرة للتخرج، وقد حال عملهم الثوري دون إتمام تخرجهم بشكل نظامي. ناهيك عن أن الدور الرقابي للمنظمات الداعمة على الأرض سيكون «أأمن وأسهل بكثير في المدن والقرى الحدودية عنه داخل حلب المحررة التي تتعرض للقصف العنيف».
نقص المعدات والأجهزة الطبية والأدوية
وترافق نقص الأطباء والأخصائيين الناتج عن الهجرة الأخيرة مع نقص في المعدات والأدوية، ما أدّى لحالات تشوهات أو حتى وفيات، خاصة في فترات ارتفاع وتيرة القصف. وذكر يوسف حدوث عدة حالات بتر للأطراف بسبب عدم توفر طبيب وعائية في المدينة، وأضاف عمر أبو غيث: «تحدث حالات وفيات كثيرة بسبب هذا النقص في المعدات والأدوية وأيضًا الجراحين، خصوصًا الوعائية والعصبية والعظمية. وقد سجّلت عدة حالات وفيات من الأمراض الداخلية كالناعور والتهاب الكبد والسرطان وذلك لعدم توفّر الأدوية اللازمة، حتى أكياس الدم نضطر لإعطائها للمريض غير محللة على الإطلاق بسبب نقص معدات المخبر ونقص أكياس البلازما، كما لا يتوفّر لدينا جهاز الطرد المركزي لفصل البلازما، والذي يبلغ سعره 50000 دولار». وأضاف أبو غيث أن «الأطباء يضطرون لإجراء عمليات إسعافية بالتخدير الموضعي وتحت أضواء القدّاحات فقط بسبب انقطاع الكهرباء غالب الوقت.»
وبحسب يوسف، فأنه ذهب قبل أسبوعين لإحضار بعض الأدوية والمستهلكات من مديرية الصحة الحرة وكان مدير الصحة موجودًا، فكان أن قال لمسؤول المستودع أعطه ما يريد «باستثناء الأدوية»، وأن أمين المستودع أخبره بوجود تعليمات بأن يكون الدواء للريف فقط. من جهته عزا أبو عميرة هذا النقص لتزامن الهجمة الشرسة بالبراميل مع الاشتباكات مع الدولة الإسلامية وقطع الطرق المرافق لذلك، ما أدى إلى توقف القوافل المحمّلة بالمستهلكات على الحدود لفترات طويلة. وأضاف: «وصل بنا الحال في بعض الأيام بأننا لم نجد أيّ حوجلة تفجير صدر في جميع مشافينا».
فوضى تعدد الهيئات والمجالس الطبية
يوجد في حلب المحررة عدة مجالس وهيئات طبية، كلٌ منها له مشافٍ وأطباء وكوادر خاصة به، وكلٌ منها يتلقى الدعم من منظمات داعمة مختلفة، علما أنه يُفترض أن تتوحّد جميعها تحت مسمى «مديرية الصحة». ويقول عمر: « يوجد في حلب 15 مركزًا لعلاج الليشمانيا ويأتي الدعم الدوائي والكماليات الطبية من قطن ومعقمات وكفوف وبلاستر وما إلى هنالك من منظمة «منتور»، أما الدعم اللوجستي فهو من مكان ورواتب وتجهيزات من صوبيات وكراسي وغيرها فتأتي من مكان آخر، وأنا نفسي لا أعلم لأي جهة أتبع، إذ أعمل في مشفى يتبع لهيئة أطباء حلب الأحرار وآخذ راتبي من منظمة والمشرف عليّ شخص يتبع لمديرية صحة حلب الحرة والدعم الدوائي من منظمة أخرى»، وبرأي عمر فإن هذا التعدد للمصادر الداعمة يخلق المشاكل والفوضى.
وذكر أبو عميرة أن الحجج التي تُعطى إليهم دومًا حول تعدد الجهات الطبية، هي عدم وجود جهة داعمة واحدة تكفي لأن تُغطّي كل مستلزمات المشفى من رواتب وأدوية ومستهلكات وغيرها، لذلك تتعدد الجهات الداعمة للمشفى الواحد. واختتم أبو عميرة حديثه قائلًا: «تبقى المعضلة الأكبر هي الجهات الداعمة، فهم يعتبرون أنفسهم مُتفضّلين علينا بالرواتب عدا عن سوء التوزيع المالي. فراتب أقل موظّف لديهم في تركيا والذي يعيش حياة مرفّهة هو 800 دولار، نفسه راتب الأخصائي في حلب الذي يعيش أسوأ الظروف وبضغط عمل 24 ساعة» وأضاف: «زار مشفانا يومًا أحد كبار المسؤولين في جهة داعمة معروفة واضطررنا لإنزاله مع طبيبين آخرين في غرفة متواضعة وصغيرة فأبدى امتعاضًا شديدًا من الوضع المعيشي السيء للأطباء ووعدنا قبل سفره في اليوم التالي بتخصيص مبلغ معين من الدعم لتحسين الوضع المعيشي للكادر الطبي، وطبعًا «هاد وش الضيف».
وما بين تهجير الأطباء في حلب مع نقص الأدوية والمعدات الطبية، وبين تسييس الجهات الداعمة، والتي باتت تدعم مشاف بعينها على حساب مشافٍ أخرى أكثر عمليّة وأهمية وأقوى أداءً على الأرض وبالتالي تتطلب دعمًا أكبر، وانشغال بعض المجالس الطبية بالانتخابات لنيل مناصب وزير الصحة ومديرها، يُسطّر ما تبقى من أطباء وكوادر طبية في حلب المحررة أروع البطولات والتضحيات تحت وطأة القصف المتواصل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأرواح في ظل الإمكانيات الفقيرة المتاحة والرواتب الضئيلة بعيدًا عن ضجيج و»ترّهات» الجهات المعنيّة.