عنب بلدي – خلود حلمي
قبل عام من الآن، انهالت طائرات النظام بالبراميل على مدينة إعزاز في ريف حلب، ما أدى إلى موجة نزوح هائلة إلى «كلس» التركية. هناك، وقفت النساء في طوابير الخبز تنتظر حصتها.. تهافتت الواقفات على ربطة الخبز والمشاحنات التي حصلت، والتي ولدت لدى «نجلاء» شعورًا خانقًا بكرامة مسحت بها الأرض. بدموعها وغيرتها على كرامة نساء وطنها، ذهبت إلى الواقفات لتخبرهن بكلمة واحدة «مو هيك كنا».
ومن وقفة «الذل» على طوابير المساعدات، ولدت فكرة مشروع «صنعته أم ثائرة»، وكانت الخياطة الحل الإسعافي الذي خطر ببال نجلاء، وهي ثائرة سورية كان قدرها أن تنزح إلى إعزاز في شمال سوريا بعد الاجتياح الأخير لمدينة داريا، ليسوقها القدر مجددًا للنزوح من وطأة البراميل إلى تركيا.
أول الصعوبات التي واجهت نجلاء، عدم وجود ماكينات خياطة، فاختارت الحياكة، وتوجهت إلى جار تركي استدانت منه مبلغ 1500 ليرة تركي لشراء الصوف، وجمعت النساء اللواتي يعرفن الحياكة وبدأن بالعمل، وأصبحت تزورهن كل يوم سبت للاطمئنان على حالهن وسير العمل، إلا أنها كانت تلاحظ الضعف الكبير والانكسار الذي كنّ يعانين منه، فكانت فكرة معرض لبيع المنتجات لتقف المرأة على طاولتها أمام مصنوعاتها اليدوية و»تشوف حالها أديش مهمة».
لم يكن همّ نجلاء تمكين السيدات مادّيا فقط، بل معنويًا، فكانت تحدثهنّ عن الكرامة والعزة وتعيد على مسامعهنّ أن «السوريات عزيزات» بلغة تشبه بساطتهن وعفويتهن، وتمكنت من إيصال رسالتها لهنّ أنهن بحرفتهنّ البسيطة هذه ومن بيوتهنّ يستطعن العيش بكفاف دون الحاجة لترك أطفالهن في المنزل لوحدهم.
«هيروشيما اليابان» كانت مثال نجلاء المحتذى.. حدثت النساء عن استطاعة اليابانيين إعمار بلدهم بالمشاريع الصغيرة بعد فترة قصيرة مقارنة بحجم الدمار الذي خلفته القنابل الذرية، وكانت رسائلها أشبه بتنبيهات في منطقة اللاوعي لديهنّ. تقول نجلاء: «في البدايات، النساء كن يخجلن من الظهور والحديث على الملأ، وكنّ يتهربن من رؤية أي زائر لنا. والآن وبعد مرور عام على المشروع وخلال المعرض، كنّ يشعرن بالحزن إن تحدث أحد الضيوف أو الإعلاميين مع واحدة دون أخرى. وما أذهلني هو أنهنّ تحدثن عن التجربة اليابانية وقارنوها بتجربتهنّ المصغرة لإعمار البلد».
وكان التغيير الذي طرأ على السيدات العاملات في المشروع «رائعًا»، فلم تستطع نجلاء كبت دموعها حين رأت قوة شخصيتهنّ وعزتهنّ بارزة جدًا خلال المعرض الذي أقيم في كلس في يوم المرأة العالمي (قبل أسبوعين). حيث عملت النساء المصنوعات الصوفية وقامت هي بترتيب الأمور اللوجستية، حتى الضيافة كانت من إعداد النساء.
قبل افتتاح المعرض، سألت نجلاء النساء: هل سيكون المعرض «مكايدة ولا عرس؟»، فكان الجواب من الجميع: «عرس». والهدف من سؤالها، حسب قولها، هو تعزيز مبدأ المحبة والتعاون ونفي مبدأ «التنافس السلبي».
وتذكر نجلاء في حديثها لعنب بلدي قصة طفلة عمرها 12 عامًا، حاول أحد الزوار الأتراك إعطاءها مبلغًا من المال، فنظرت الطفلة إليه وقالت له: «ليش نحنا اشتغلنا كل هالصوف؟ مو منشان نبطل عادة الشحادة؟ إذا بدك تعال اشتري قطعي يلي اشتغلتن». كما تتحدث نجلاء عن سعادة سيدة عجوز تعيل زوجها العاجز، بعملها، فقد كانت تبتسم كثيرًا خلال المعرض، وعند سؤالها عن سبب تلك السعادة، رفعت العجوز إبهامها قائلة: «حطيت نقطة بهالحياة» لتكتشف نجلاء فيما بعد أن ما تعنيه العجوز هو البصمة.
وبحسب نجلاء فإن المشروع، الذي بدأ بعشرين امرأة وأصبح يضم اليوم 35 امرأة، يعاني ضعفًا في التسويق، إذ لم يتم بيع كافة القطع خلال المعرض، وتابعت: «كنا قررنا أن يكون المعرض في مدينة عنتاب ولكن بسبب ظروف البلد الطارئة والانتخابات لم نتمكن من عمل المعرض على نطاق واسع». وبسبب قدوم فصل الصيف فإنها تتواصل مع الدول الأكثر بردًا لبيع منتجات النساء هناك وتفكر بمشاريع أكثر استدامة كإعادة تدوير الأشياء البالية.
وتعمل نجلاء على افتتاح مركز يعنى بتمكين الأنثى اللاجئة وزيادة وعيها رغم المعوقات المادية التي تواجهها، وهدفها «لا تعطني سمكة كل يوم، علمني كيف أصطاد».