ثمة من يقرأ التطورات الميدانية والتفاهمات الدولية والاستدارات الضرورية في كل من العراق وسورية، على أنها بداية النهاية ويأمل ليس فقط بوقف النزيف وإنما بالاستقرار وإعادة بناء لهما مردود إيجابي على البلدين وعلى جيرة سورية والعراق كما على النازحين واللاجئين السوريين والعراقيين. في المقابل، هناك من ينظر الى التطورات الأخيرة على أنها ورشة تقسيم لكل من سورية والعراق لخدمة مصالح روسية وأميركية وإيرانية وإسرائيلية وتركية وأوروبية وربما كردية وغيرها، ربما لن يؤدي الى الاستقرار بل الى المزيد من المآسي وبؤر النزاعات.
المعادلة الأميركية – الروسية تفيد، أولاً، بأن الرئيس الأميركي الذي يتخبط في زوبعة داخلية تلو الأخرى بسبب تهم «التواطؤ» مع روسيا أثناء الحملة الانتخابية لم يتمكن بعد من الإمساك جدياً بالخيوط المعقّدة في السياسة الخارجية بالذات في منطقة الشرق الأوسط، حيث أركان إدارته في خلافات أساسية في شأن التكتيك والاستراتيجية. وثانياً، تفيد تلك المعادلة بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يتباهى بإمساك زمام الأمور في المسيرة السورية منذ تحالفه مع إيران والنظام في دمشق، على أساس خطة نجحت في فرض ما يريده يجد نفسه اليوم غير قادر على تنفيذ استراتيجية خروج يحتاجها كي لا تصبح الأزمة السورية مشكلة روسية. العلاقة ما بين الحكومة الروسية وإدارة ترامب في شأن سورية ليست إطلاقاً ما كانت عليه في عهد الرئيس باراك أوباما حين عرض وزير خارجيته جون كيري نفسه شريكاً لنظيره الروسي سيرغي لافروف في إدارة أزمات سورية. إدارة ترامب تختلف نهجاً وسياسة، ووزير الخارجية ريكس تيليرسون لا يريد أن يكون جون كيري الذي أمضى وقته في زيارات مكوكية وشراكات شبه وهمية لم تنتج له ما حلم به من جائزة نوبل السلام له وللافروف في المسألة السورية. إدارة ترامب تقنن أولويتها في محاربة الإرهاب وإلحاق الهزيمة بـ «داعش» و «جبهة النصرة» وأمثالهما، لكن السياسة الأميركية البعيدة المدى لا تتوقف عند إدارة هذا الرئيس أو غيره وتعتمد دوماً لغة المصالح الأميركية الاستراتيجية والاقتصادية والتحالفية بالذات مع إسرائيل. لذلك، من المفيد قراءة التطورات السورية والعراقية من البقعة الرمادية الى حين هدوء العواصف الأميركية الداخلية.
سورية، أولاً، حيث بدأت الأزمة بطبقة واحدة عنوانها إدخال التغيير والإصلاح على نوعية وهوية الحكم فقرر النظام التعامل معها أمنياً، و «البقية تاريخ»، كما يقال. تراكمت الطبقة تلو الأخرى (Layers) بدخول أو بإدخال عنصر الإرهاب، فتم الإفراج عن مسجونين واستدعاء المتطرفين الإرهابيين الى الساحة السورية بقرار متعدد الجنسيات وعَقَد بشار الأسد «العزم على أن يحوّل كامل النزاع الى حرب على الإرهاب يقف هو في الجبهة الأمامية ويقول للعالم: أنا الشريك الأساسي ولا استغناء عني في الحرب على الإرهاب.
نجح بشار الأسد في الأمرين: تحويل سورية الى ساحة مشتعلة لحرب على إرهابٍ محلي وعالمي تم استدعاؤه الى سورية. نجح، ثانياً، في إبرام شراكة مع روسيا ومع إيران وميليشياتهما ضمنت له البقاء في السلطة وجعلته غير قابلٍ للاستغناء عنه. بشار الأسد نجح أيضاً في تحويل «النزاع السوري الى أزمة دولية بسبب اللاجئين، وأنجز لنفسه تمديد النزاع بهدف الإنهاك وبهدف فرض الاستسلام لأولويته المدعومة من المحور الروسي- الإيراني الضامن له.
مصادر رفيعة مطلعة على تفكير الجهات الدولية والإقليمية الفاعلة في سورية تحدثت عن «استدارات واقعية»، كتلك التي استدارها الرئيس الفرنسي الشاب ايمانويل ماكرون الذي أعاد النظر في السياسة الفرنسية للسنوات السبع الأخيرة، واستدار باتجاه القبول ببقاء الأسد في السلطة «كأمر واقع عابر وموقت» بدلاً من اشتراط وضوح طريقة خريطة مغادرته السلطة.
الرقة ستكون نقطة التحوّل في سورية بحسب قول أحد المصادر المعنية بجهود معالجة النزاع في سورية. لماذا؟ لأن بعد تحرير الرقة من «داعش» وأمثاله لن تتوافر الذرائع لأي كان ليزعم أن بقاءه على أرض سورية هدفه محاربة «داعش»، يقول المصدر الذي يضيف أن أهمية الرقة أيضاً بسيكولوجية لأن تحريرها سيكون رمز القضاء على «داعش». فماذا يعني كل هذا؟ يعني أن الجهود الديبلوماسية الدولية تستعد لتكون جاهزة لمختلف مراحل قشر الطبقات في نوع من تبسيط الأولويات بواقعية. الأولوية الأولى، إذاً، هي الرقة بأهميتها الميدانية والبسيكولوجية – والجميع في انتظارها»، لا سيما أنها تمثل العزم الذي يبني عليه دونالد ترامب والإنجاز الذي يحتاجه. طبقة أخرى قابلة للقشر، إذا جاز التعبير، هي ما يسمى بمناطق خفض التصعيد لحقن الدماء» de-escalation» وإنشاء ما يشبه الجيوب الآمنة في مناطق تلو الأخرى. وبحسب مصدر دولي «نحاول ربط مناطق خفض التصعيد بتسوية سياسية تؤكد على وحدة أراضي سورية». المشكلة هي أن وضع ترتيبات أو إجراءات موقتة، الى حين الانتقال الى تسوية سياسية، يوحي بأن تقسيم الأمر الواقع لسورية آتٍ تنفيذاً لمقولة «ليس هناك أكثر دواماً من الموقت».
إن التقسيم شبه مستحيل لاعتبارات واقعية، بحسب تقويم معنيين دوليين بالملف السوري لأسباب عدة من ضمنها أن التقسيم مكلف جداً لرعاته. روسيا لا تريده لأسبابها. تركيا لا تريده لأسبابها. القاسم المشترك هو أن تقسيم سورية لخمس مناطق على نسق البلقان سيتطلب دعماً مالياً ضخماً من رعاة الأجزاء المقسَّمة قد لا تتمكن الدول المعنية من تحمل كلفته. هذا هو رأي أحد المصادر الرفيعة الذي يضيف: «إن التقسيم خطر وارد علينا أن نتجنبه. ولا أحد يريد أن يرث قطعة من سورية» الممزقة.
مصدر آخر يشير الى أن الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإسرائيل والأردن لا تريد التقسيم إنما «إيران لا تبوح عن خططها، مع أن التقسيم يؤدي أيضاً الى دولة كردية لا تريدها إيران».
هذا المصدر يقر بأن إسرائيل مستفيدة جداً من إبعاد إيران و «حزب الله» عن المنطقة المحاذية للجولان ويقول إن التوافق الأميركي- الروسي على الترتيبات في الجنوب الغربي السوري هو انتكاسة لطموحات استراتيجية لإيران و «حزب الله». الأردن وهو جزء مهم من التفاهمات الأميركية- الروسية مستفيد أيضاً كشريك لأن الترتيبات أبعدت إيران و «حزب الله» عن الحدود مع الأردن – الأمر الذي بدوره لا يعجب إيران إنما اضطرت للرضوخ له تطبيقاً للتفاهم الأميركي والروسي بأن الوجود العسكري غير السوري في الجنوب غير مقبول.
الأسس الثلاثة لسياسة الرئيس ترامب في سورية هي: تحرير الرقة من «داعش»، وضمان مصلحة إسرائيل الاستراتيجية، وقطع الطريق على مشروع الهلال الإيراني الممتد عبر العراق وسورية الى لبنان. هكذا أكد أكثر من مصدر، نافياً تراجع إدارة ترامب عن العنصر المعني بإيران. إيران في سورية، بحسب ما نقلت المصادر عن الحديث الأميركي مع الروس في هذا الشأن، هي مسؤولية روسية، ولذلك إيران قلقة من الأجندة الروسية ما بعد قمة ترامب- بوتين في هامبورغ وما سيليها من تفاهمات على الأرض، إنما هل إدارة ترامب قادرة على رغم تبعثرها على أن تقطع الطريق على مشروع الهلال الذي استثمرت إيران فيه غالياً؟ «حذارِ التقليل من قدرات الولايات المتحدة الأميركية»، يقول أحدهم. «حذارِ من الاتكال على التعهدات والوعود الأميركية» يردّ آخر. أين مصير بشار الأسد من كل هذا؟ يقول أحد المصادر إن «لا أحد يشترط زوال الأسد الآن. وإزالة الأسد لاحقاً ستكون عبر عملية سياسية». مصدر آخر يؤكد أن «طبيعة النظام في دمشق تجعله غير قادرٍ على تحمّل التغييرات الآتية». إذاً، الأسد باقٍ الآن. الكلام عن رحيله عبر توافق أميركي – روسي يميز بين رحيل الأسد وبقاء النظام قد لا يكون بعيداً، إذا تمّت الصفقة الصعبة. وهنا أيضاً تتضارب الآراء حيث يؤكد البعض أن العد العكسي الى الانتهاء من النزاع في سورية بدأ على أساس تدمير «داعش»، وتأمين خروج معقول للقوات الروسية، ومغادرة الميليشيات، وانخراط الأوروبيين في إعادة البناء، وعملية سياسية آتية تستعد لها الأمم المتحدة. الرأي الآخر هو أن مرحلة ما بعد «داعش» ستطول وأن لا استقرار آتٍ قريباً الى سورية والعراق ما دامت إدارة ترامب في تخبط وتبعثر تبدو ساذجة أمام الحنكة الروسية – الإيرانية.
هذا البعض لا يوافق على أن إيران خاسرة – لا في سورية ولا في العراق. يعتبر أن الجيوب الآمنة التي هي في نهاية الأمر عملية إضعاف للمعارضة السورية، إنما تريح إيران وطهران تريد توسيعها: وإن إدارة ترامب تقدم لدول الخليج الكلام المعسول للمجاملة فيما هي تبارك وتتعايش عملياً مع امتدادات إيران في سورية والعراق. يشير هذا البعض الى أن واشنطن ناشطة في دعم رئيس وزراء العراق حيدر العبادي، لكن مواجهة «الحشد الشعبي» فوق طاقته.
وهنا المعضلة: أية «دواعش» ستفرّخ، في حال الاكتفاء بإنجاز ما يسمى بالقضاء على «داعش» في سورية والعراق بانفصال عن معالجات سياسية جذرية ضرورية؟ مشكلة الولايات المتحدة اليوم أن المسائل الاستراتيجية تأخذ المقعد الخلفي للانقسامات والمحاكمات الداخلية. الرئيس ترامب وطاقمه في البيت الأبيض يفتقدان الخبرة الضرورية لحسن التقدير إزاء المحنكين في روسيا وإيران. المحنّكون في صنع السياسة الأميركية، على نسق وزير الدفاع ومستشار الأمن القومي، مكبّلون في كثير من الأحيان ببيت أبيض يغرّد على مزاجه وبتحقيقات في تورط بعض رجاله في المسألة الروسية.
مرحلة صعبة هذه، قراءتها معقدة لأنها برمتها في البقعة الرمادية.