في معنى بقاء بشار
أفضل ما وجد وزير خارجية ترامب قوله هو أن بشار وعائلة الأسد سيغادران السلطة في الأجل الطويل. هذه العبارة لم تُفهم على نطاق واسع إلا كقرار أمريكي مفاده الإبقاء على عائلة الأسد في السلطة، فالأجل الطويل ليس ملك إدارة بقي لها في الحكم أقل من ثلاث سنوات ونصف، هذا إذا أكمل ترامب ولايته، ولم تؤدِّ التحقيقات مع أركان إدارته وحملته الانتخابية إلى النيل منه ومن رئاسته.
تصريح الوزير الأمريكي لم يأتِ ضمن صفقة كبرى مع موسكو، وهي صفقة لا يتجرأ على عقدها ترامب وفق ظروفه الداخلية الحالية حتى إذا رغب فيها. والتصريح أيضاً ليس جائزة ترضية صغيرة يقدمها لبوتين، بعد إحباط مخطط ترامب في التقارب معه، لأن طموح بوتين يتعدى مثل هذا التصريح إلى إقرار أميركي أعمق بدوره في منطقة الشرق الأوسط، وفي المجال الذي يعتبره مجاله الحيوي مثل أوكرانيا. لا يغيب عن الأذهان طبعاً أن الإقرار ببقاء بشار هو أفضل هدية يمكن تقديمها لطهران، حتى مع وجوده تحت وصاية نظرية من موسكو، فميليشيات طهران تحكم السيطرة على الميدان ولا غنى عنها بالنسبة للطيران الروسي الذي لن يحقق أهدافه بمفرده.
قبل الضجيج الذي رافق لقاء ترامب-بوتين كان ثمة ضجيج أكبر رافق القمة التي عقدها ترامب مع عشرات من قادة الدول الإسلامية، وفُهم حينها أن القمة مكرسة لمحاربة الإرهاب، ولاعتبار إيران دولة إرهابية في منزلة التنظيمات المصنفة هكذا. وفُهم آنذاك أن لمحاربة المد الإيراني أولوية توازي القضاء على داعش والقاعدة، ومن ضمن هذا الفهم لا بد أن يُجرّد نظام بشار من أهم دعم يتلقاه ممثلاً بالميليشيات الشيعية، بخاصة مع دعم بعض الدول المؤثرة لفصائل مسلحة تقاتل نظام بشار وداعميه.
وكما هو معلوم سرعان ما تلا تلك القمة تصعيد مفاجئ في الخلافات الخليجية، مضافاً إليها مصر السيسي، بما طغى نهائياً على موضوع التصدي للمد الإيراني في المنطقة. في الوقت نفسه، وقبل تصريح وزير الخارجية المذكور، لم تعد إدارة ترامب تجاهر بالعداء لإيران على النحو الذي كانت تبديه من قبل، وصمتت عن استفزاز قائد الحرس الثوري قاسم سليماني الذي يسعى إلى إعادة الوصل برياً بين مناطق نفوذه في العراق وسوريا. أي أن ركناً أساسياً من أهداف قمة الرياض، وهو التصدي لإيران مع التصدي لداعش والقاعدة، يبدو كأنه أصبح من الماضي، هذا إذا كانت النوايا صادقة في الأساس.
لكن لماذا لا نجازف بالقول أن تلك الإعلانات المضخمة لم تكن جادة حقاً؟ أو بالأحرى قد يكون هناك ما يخالف التحليل المنطقي نظرياً، وقد تكون الرغبة الأمريكية في الإبقاء على بشار إلى أجل طويل محل اتفاق بين إدارة ترامب وقوى إقليمية صديقة، في مقدمها حكام الإمارات والسيسي. وهنا لا مكان لنظرية المؤامرة، فالبلدان لا يخفيان ميلهما إلى الإبقاء على نظام بشار، وسبق أن تداولت الصحافة العالمية معلومات عن مباركة إماراتية ومصرية للتدخل الروسي دعماً لنظام بشار، بل راجت أقاويل عن دعم مالي إماراتي لذلك التدخل.
استطراداً يجوز التفكير في ما طغت عليه أخبار الخلاف الخليجي من تطورات قد ترسم مستقبل المنطقة، أو قد تؤسس فيها لصراعات طويلة. الاتفاق على بقاء بشار تفصيل ضمن هذه اللوحة، اتفاق تتلاقى فيه مصالح متباينة بدءاً من المصلحة الإسرائيلية، مروراً بمصلحة نظام السيسي التي قد لا تتعدى وجود نظام عسكري يفوقه وحشية، وانتهاء بسياسة إماراتية لا ترى سوى المفاضلة بين العداء للإسلاميين وصداقة العسكر والمخابرات. وإذ يتفق الجميع على أن بقاء بشار ضمن أية صيغة سيكون بقاء الضعيف فهذا لا يجرده من المغزى الأهم، وهو بقاؤه على الضد من الإرادة الشعبية للسوريين، واكتسابه الشرعية من الخارج واعتبارها كافية للحكم، وفي هذا أمثولة تحتاجها بشدة أنظمة المنطقة مع تضاؤل قاعدتها التمثيلية، وأحياناً مع تراجع في تماسك الأسر الحاكمة نفسها.
غير بعيد عن ذلك الميل الإقليمي يبدو إجماع الطبقة السياسية اللبنانية على الضغط على اللاجئين السوريين، وما يتسرب من إشارات عن دفعهم إلى العودة إلى سوريا. فهذا الإجماع غير ممكن إلا بوجود تفاهم خارجي تستند إليه الطبقة، ولا يُستبعد أن يحمل إشارة واضحة إلى عدم انتظار التغيير في سوريا لأنه لن يأتِ، مثلما لا يُستبعد أن يكون تكملة لضغوط أخرى تُمارس على السوريين وتهدف إلى رضوخهم لفكرة بقاء بشار. وما يستوقف أي متابع أن هذه الضغوط كانت مطلوبة منذ أمد بعيد من حزب الله وحلفائه، واتفاق من كانوا خصوماً للحزب معه عليها أمر يتناقض أيضاً مع المزاعم المتداولة عن مواجهة المد الإيراني في المنطقة. بل إن الحسم في تنفيذ هذه المخططات، وترهيب من ينتقدونها، يدلان أيضاً على دخول لبنان طوراً غير مألوف من الاتفاق على تضييق هامش الحريات بحيث لا يبقى نشازاً صارخاً بالمقارنة مع محيطه.
لقد شاع من قبل ظنٌّ بأن انتصار الثورة السورية قد يغير شكل المنطقة، ما يضمر أن بقاء بشار يعني بقاءها على ما كانت عليه. لكن الأحوال التي تسير إليها المنطقة تنبئ بالعكس، بمعنى أن بقاء بشار واحد من دلائل مخطط أوسع للمنطقة ككل. فإذا كان بقاؤه ضمن وصفة لاستمرار الحرب فهذا يعني فتح صفحة جديدة فيها، وهذه المرة قد لا تستثني الحرب دولاً كانت في منأى عنها، وربما تغرق المنطقة بأكملها في صراعات لا يكون ما يسمى الصراع الشيعي-السني سوى أحدها، بعد أن يفقد هو الآخر وظيفته الحالية. أما إذا كان إبقاء بشار ضمن مخطط لإعادة هيكلة السلطات في مجمل بلدان المنطقة فلا شك في أن النموذج الذي يقدمه المخطط لا يبشر كل بلدان المنطقة إلا بشكل منحط من خلطة الطغيان والفساد، ومن يريدون هذا المصير للسوريين مستعدون لإذاقة شعوبهم إياها.
خلافاً لما بات يشيعه كثرٌ من أن بقاء بشار الضعيف لم يعد ذا مغزى، وهو قول موارب يضمن تأييد بقائه، يمكن القول بأن إبقاء بشار الضعيف قد يكون بمثابة العنوان لفصول قادمة أكثر سوداوية، بخاصة إذ يأتي مع القضاء على داعش أو انتهاء وظيفته.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :