الإنكار.. واستراتيجية الخراب

  • 2017/07/09
  • 1:07 ص

إبراهيم العلوش

ينكر النظام أنه استعمل السلاح الكيماوي في غوطة دمشق، وإدلب، وحلب، وخان شيخون، ينكر النظام أنه يستعمل التعذيب الممنهج لإخضاع السوريين، وينكر أنه أطلق قادة الإرهاب الإسلاموي والمجرمين الجنائيين لتدمير سوريا، ما دامت لا تريد الاستمرار في الخضوع له، ينكر جيش النظام أنه استعمل الصواريخ والمدفعية والبراميل المتفجرة لتدمير المدن والقرى السورية، وينكر أنه استعمل شعار “الأسد أو نحرق البلد”، وموّله بالتعفيش ونهب بيوت الفقراء والأغنياء.

وسائل إعلام النظام بدورها تنكر التوريث، وتعتبر بشار الأسد استمرارًا ديمقراطيًا مركزيًا شعبيًا لأبيه، وأنه مجرد قائد أرسلته العناية الدولية لتخليص سوريا من شعبها الإرهابي.

وينكر قادة النظام تحالفهم مع الأصولية الإيرانية المتمثلة بإرهاب الحرس الثوري، وحزب الله المحمي بالطائرات الروسية، المدمنة على الموت وعلى الفودكا، وينكرون المذابح الجماعية والفردية في القرى والمدن السورية، ووصل الأمر برفعت الأسد أن ينكر معرفته بمدينة اسمها حماة، وأنه لم يزرها طوال عمره أبدًا، فكيف له أن يقوم بمجزرتها الرهيبة!

أنكر النظام لساعات وربما لأيام موت حافظ الأسد، ولم يستطع مدير التلفزيون السوري إيراد خبر موته، هذا إن كان هو نفسه يعرف بذلك، تمامًا كما أنكر موت ابنه باسل، ولم يتجرأ أحد أن يصدق يومها أن ابن القائد الخالد يموت، لا يمكن أن يموت ابن قائد الدولة، والمجتمع، والجيش، والمخابرات، ومالك أقبية التعذيب، من يجرؤ على أخذ روح ابنه، وهو يأخذ أرواح السوريين في كل يوم وفي كل وقت.

وفي المقابل ينكر الإسلاميون وجود الجيش الحر، بل ينكرون وجود سوريا والسوريين، فهذه شام شريف أرض الخلافة وأرض التفجيرات، وينكرون انتماءهم لهذا العصر رغم أنهم يحملون البنادق والهواتف الحديثة، وينكرون أن الزمن يجري، وينكرون أن ثمة بشرًا على وجه البسيطة يتجرؤون على رفضهم ورفض مقولاتهم المعتقة، والتي ليس لها برهان إلا كونها قديمة ومصفرة الصفحات، مثل وجه مريض الكبد في مراحله الأخيرة. وينكرون على الناس حقهم في الحياة الشخصية، وينكرون تبدل الحياة وتغير الناس والشعوب، وحريتهم في التعارف والاختيار والتأمل في السماوات وفي الأرض، وليس التأمل في المعتقلات وأمام منصات الرجم والذبح.

وعلى الصعيد الشعبي، تنكر العشائر تحالفها مع الأسد طوال عقود وتفريخها لفئة الشيوخ المخبرين لمختلف أنواع المخابرات الجوية، والعسكرية، والسياسية، وللقصر الجمهوري، ويستهجنون هذه التهم عشية مبايعتهم لداعش أو لإحدى مشتقاتها المسمومة، وينكرون هم أنفسهم، بعدها بأشهر، أنهم بايعوا داعش أو النصرة، وهم يستعدون لمبايعة “PYD” ومشتقات حزب العمال الكردستاني المحروسين بعناية الطائرات الغربية.

وسيتنكرون لمبايعتهم للأعلام الصفراء وللأمريكيين، إذا وصل قاسم سليماني من الحدود العراقية، ليشق طريق الهلال الشيعي عبر الجزيرة السورية إلى دمشق وبيروت، وسيثبتون له أنهم جميعًا من نسل الحسين، ومن آل البيت ويخرجون قراطيسهم المهترئة التي ورثوها عن أجدادهم، الذين تحالفوا مع مختلف القوى المنتصرة، وتحولوا إلى هلام مخاطي يتدفق عبر التاريخ!

وينكر الانتهازيون من قادة الجيش الحر والائتلاف أنهم تهاونوا وضحوا بثورة السوريين وبدماء الشهداء من أجل حفنة من الدولارات، ومن أجل رفاهية زائفة في فنادق العواصم التي تعيد تكوينهم حسب الشيكات التي تدفعها، وتستمر فعاليتهم حتى تأتي منافع أكبر وتدير عصا القيادة في الوجهة الجديدة التي تختارها الجهات الممولة الجديدة، وينكرون أنهم لم يأخذوا أمر السوريين بجد وبمسؤولية، وكان النظام قدوتهم في الإنكار الاستراتيجي الممهد لمسارات الحريق السوري، والذي مايزال يلتهم الأخضر واليابس.

وننكر نحن السوريين أننا ظللنا صامتين عندما اعتقل الناس في الثمانينيات، وننكر أننا هتفنا للقائد في المسيرات الوطنية والقومية لنسلم على جلودنا من تعذيب المخابرات التي أخفت عشرات ألوف الناس بشكل مقصود وممنهج، وبتهم عشوائية. صمتنا عن كذبها سنة بعد سنة.. حتى فتحت هوة الموت الأخيرة لنا أحشاءها التي لا تشبع ولا تمل من التدمير والتهجير ولا من التعذيب.

جدران شاهقة بيننا وبين أنفسنا، جدران نبنيها ونتقن تدعيمها، بيننا وبين ماضينا، الذي بالكاد فارقناه قبل لحظات، أو أيام، أو قبل سنوات، جدران صلدة من الإنكار الذي يمنعنا من الالتفات إلى الخلف لنرى نتائج أفعالنا السابقة، ويوهمنا بالنظر إلى المستقبل الذي قد ننجو فيه من نتائج أفعالنا.

ما يمارسه النظام ويتبعه الآخرون هل هو مجرد إنكار، أم هو فصام، أم هو استراتيجية تعمل على تجديد آلة الدمار الجماعي، التي تطلق أدواتها في مجتمعاتنا، وفي بلادنا، وفي مستقبل أبنائنا لاحقًا.

كيف نستطيع أن ننظر إلى وجوهنا في المرآة بجرأة، ونتقبل حقيقتنا، ونعمل على تحسينها مهما كانت بائسة ومخيبة للآمال، بدلًا من إنكار هذه الحقيقة.. كيف نخرج من هذا الكذب الاستراتيجي الذي يلتهمنا ويقلّل من قيمتنا ويحولّنا إلى هلام؟

كيف نستطيع أن نرى عيوبنا أسوة برؤيتنا لعيوب الآخرين، وأن نعمل على تجميع أنفسنا في منظومات وأحزاب وتجمعات حقيقية قادرة على البناء، وانتقاد أنفسها وتشخيص أخطائها، وإعادة الانطلاق والتجدد كل وقت وكل حين؟

لقد هُدمت الجدران التي كنا نسند ظهورنا إليها، ونخبّئ أخطاءنا خلفها، وتم رمينا في شوارع المدن ودروب الصحاري، والجبال، وفي بحار العالم، وفي خضم المجتمعات والعادات واللغات التي لا تأبه بما نقوله ما لم نكن قادرين على أن نقف على أقدامنا، وبعيدًا عن التشكي والتذلل، وعن الإنكار الذي ننغمس في أعماقه كل يوم.

أيها السوري.. نعم أنا مخطئ ولكن لا يحق لك تدميري، وأنت مخطئ ولا يحق لك إجباري على الخضوع لك.

مقالات متعلقة

رأي

المزيد من رأي