دعاء بيطار
عندما تصاب بانتفاخ الكلام، أي أنك سمعت عن الموضوع كثيرًا لدرجة أن أصابتك بعض التشنجات الفكرية، فبات الأمر يستدعي تدخلًا عاجلًا لاستخرج هذا الهراء إلى أرض الواقع، لأنه مع انحباسه قد يسبب أضرارًا لا حصر لها.
كذلك هو الحال عندما تترك العلم الذي يحتاج إلى عمل لتمتلئ به ذاكرتك وخزينتك المعرفية، دون وضعه موضع التطبيق، فسيكون بلا فائدة وتتحول جميع النظريات التي غذيت بها عقلك إلى هذر لا فائدة من ورائه، بل حسرة ووبالًا على صاحبه في الآخرة، لأن مسؤولية الذين يعلمون أن يعطوا ويخرجوا هذا العلم لمن لا يعلمون ابتداءً، فما فائدة إناء مليء لا ينضح بما فيه أو أنه ينضح ولكن بصمت دون أن يكون له الأثر الواضح والبصمة المميزة، وما فائدة آلة صنعت بأحدث التقنيات وكلفت الكثير من الأموال دون أن يكون لها إنتاج على أرض الواقع. لا شك أنها ستكون عبئًا وشيئًا زائدًا في الحياة، ولا شك أن أفضلية وموقع الإنسان أعمق من ذلك بكثير.
يقول الرافعي: “إذا لم تزد شيئًا على الحياة كنت أنت زائدًا عليها”، كثيرًا ما ترددت تلك المقولة في ذهني كلما كنت في تجمع ضخم أرمق اختلاف الناس بأشكالهم ولغاتهم وأعمارهم، دون أن أشك لحظة أن اختلاف ما دون ظواهرهم أعمق وأكثر تعقيدًا، ولكن الواقع يقول أن التنوع المنشود قليل جدًا فيمن يعملون ويطبقون، وأن هناك ما هو أكثر تميزًا وإيجابية فيمن لا يعملون لكن الأمر يحتاج إلى قليل من الصبر مع التحفيز، ليخرج إلى النور ويحيي قلوبًا متعطشة للنماء والإعمار في كل مجالات الحياة، فما الذي ينتظره أولئك الذين يضيعون أوقاتهم في الديوانيات ومجالس اللهو وأمام الشاشات وفي النوم الطويل والسهر والتسويف، وهم يمتلكون من المعرفة بمواهبهم وقدراتهم ما يستطيعون به إقامة محاضرات من الكلام والكلام فقط.
متى سيحين موعد الانطلاق بلا توقف وتقديس العمل واحترام الوقت وزيادة الفعالية واكتشاف المواهب؟ متى سيحين موعد المواجهة الصادقة مع النفس واغتنام فرصة الحياة التي يتمناها كل من ابتلعتهم الأرض في لحظة خاطفة دون أدنى إنذار.
متى ستقول أيها الإنسان للشيطان وهوى نفسك توقفا عن إلهائي وإضاعة ما تبقى لي من ساعات ربما أو أيام أو سنوات! أرجوك قف الآن أمام مرآة نفسك وانظر إلى قابل أيامك، وتخيل أنها ستكون كيومك هذا، فإذا كنت راضيًا بأن تنتهي حياتك بعد أيام أو أسابيع على ما أنت عليه، فاقبل أن تنتهي الآن، فالفرق معدوم. أما إن كنت تجد في نفسك شيئًا بإمكانك إضافته إلى هذا العالم الذي ينتظر بصمتك المميزة، فخذ قرارك الآن فالأمر بيدك وحدك لتفعل ما تريده لا ما يريده الآخرون، فالكثيرون ممن تجاوزوا هذه العقبة، من اعتياد الكسل والتسويف والاستمتاع بالكلام وتخزينه فقط، كانت لهم لحظة حاسمة كالتي تمر بها الآن، لكن الفرق كان كبيرًا فيما تركوه من أثر.
أرجو ألا تكون كلماتي إليك من النوع الذي سيتحول مع الأيام إلى انتفاخ معرفي فقط، لأن ما يتبع ذلك من أمراض، كالعجب والكبر وتضخم الأنا وانحسار الإنسان على نفسه، له من النهايات المدمرة على الشخص نفسه وعلى المجتمع كاملًاـ، وما أكثر ما نرى من هذه النماذج في أيامنا.