إبراهيم العلوش
في رواية “خريف البطريرك” لغابرييل غارسيا ماركيز، والتي سعت إلى تصوير الدكتاتور، يتفق الجميع على ترك الديكتاتور في قصره، وإنشاء مركز جديد للحكم لاستحالة التعامل مع الدكتاتور وشبكات إرهابه المتداخلة.
وعندما يخلو الدكتاتور لعزلته في مقره المنبوذ، يجد نفسه يراقب البحر من شرفته، وينزعج من الشركة الألمانية التي باعها البحر، إذ يراقبها وهي تقطّع البحر على شكل كتل كبيرة وتنقله بسفنها، لتتركه جالسًا بلا بحر يتأمله كل صباح، فقد باع حتى البحر، وترك مكانه حفرة كبيرة كانت تموج بالحياة وبالجمال.
كتب ماركيز لأحد أصدقائه عند كتابته لهذه الرواية، بأنه يريد أسطرة الدكتاتورية، فرد عليه صديقه “هل أبقت الدكتاتورية شيئًا أسطوريًا لم تفعله”. فهل أفلح ماركيز بأسطرة الدكتاتور، أم أن الواقع المعاش في سوريا اليوم يفوق خيال ماركيز أضعافًا مضاعفة؟ فالدكتاتور السوري لم يكتف ببيع البلاد ورهنها، بل دمّر كل مظهر من مظاهر الحياة فيها.
في بداية حكم بشار الأسد وعد بالإصلاح، وبمنظومة الأكاذيب المعهودة في الإصلاح والتطوير، ومن بين محاولاته للإصلاح حاول إصلاح وضع التلفزيون السوري، ووقف الفساد فيه وصراع المخبرين وأجهزتهم المتنافسة على احتواء المسؤولين والمذيعين وسلوكهم، ووصل الأمر في تنافسهم حتى على عقود صيانة التواليتات فيه.
أحضروا خبيرًا دوليًا مشهودًا له بقدراته الإدارية الكبيرة، وأقام في مبنى التلفزيون لمدة ستة أشهر كاملة، وخرج بتقرير مطوّل عن وضع التلفزيون، ولخّصه بجملة واحدة وهي: لا يمكن إصلاح هذا التلفزيون وأنصح بإقامة مبنى جديدًا للتلفزيون يبدأ بناؤه وبناء كوادره من الصفر!
المدة التي تفصل رواية ماركيز عن تقرير الخبير الدولي، أكثر من ثلاثين سنة، ولكن النتيجة واحدة، فماركيز نال جائزة نوبل للآداب على أعماله وفي طليعتها “خريف البطريرك” التي وصفت الدواء الناجع للتخلص من الدكتاتور، والخبير الأجنبي نال مبالغ مالية طائلة وإقامة فارهة، ليكتب علاجه بجملة واحدة مستمدة من رواية ماركيز.
المؤيدون اليوم لنظام بشار الأسد، وبعض الدول الراعية لنظامه، يحاولون إصلاح سلوكه، وطلبَ ترامب الرئيس الأمريكي ذلك في بداية حكمه، ولحقه الرئيس الفرنسي ماكرون مؤخرًا. ولكنهم سيقضون وقتًا طويلًا وسيتسببون بالمزيد من الضحايا وهم يعالجون سلوكه ويحاولون إصلاحه وتقويم إرهابه، والنتيجة لن تكون غير وصية الخبير الأجنبي، وحكمة ماركيز، ووصفة الثورة السورية منذ يومها الأول إلى هذا اليوم وهي: إسقاط النظام، وسحب أوراقه وتركه مقبورًا بأوهامه، وبناء سوريا الجديدة التي تستوعب أبناءها، والقادرة على إصلاح نفسها عند كل عثرة في دربها، أو خطأ في سلوكها أو سلوك مسؤوليها مهما علت مكانتهم!
الخامنئي المرشد الإيراني، صرّح قبل أسابيع منددًا بمحاولات الإصلاح في الداخل الإيراني، وردد جملة ملفتة تعتبر تطويرًا لوصفة ماركيز المتلخصة باستحالة إصلاح الدكتاتورية، وقال بكل بلاغة: إن الذين يحاولون تغيير سلوك النظام، يعملون على إسقاطه!
لعلّ حكمته هذه باستحالة الإصلاح للنظام الدكتاتوري مستمدة من تجربته في سوريا، التي بذل كل طاقته، والكثير من إمكانات دولته من أجل إبقاء بشار الأسد ورعاية سلوكه العدواني ضد الشعب السوري، فالنظام الإيراني ما يزال خائفًا من موجات الربيع العربي، ومن عقابيل دعمه لبشار الأسد التي تبدو اليوم أنها تذهب هباء، فلم يستطع إجبار الشعب السوري على القبول به، رغم كل المآسي التي لحقت بالسوريين جراء رفضهم استمرار الذل والقمع الى الأبد.
روسيا الداعم الأكبر لنظام القمع، تبذل قصارى جهدها لإعادة تسويق نظام بشار الأسد، وعدم تركه في النهاية وحيدًا يحكم بضع قرى جبلية نائية ومخنوقة بالشبيحة وبأمراء الحرب، الذين سرعان ما ستتفكك أواصرهم فور انتهاء مصلحتهم مع الدكتاتور، وستجد أن قواعدها وانتصاراتها التي دمرت سوريا بسببها، مكشوفة وتحت رحمة المتغيرات التي تعصف بسوريا كل يوم، والتي تحركها إرادة الشعب السوري، ومصلحته، وهي لن تدوم أبدًا في استسلامها للإرادة الروسية ولا للإرادة الإيرانية، مهما كانتا قويتين اليوم.
عودة ثانية إلى إصلاح التلفزيون مع مشهد الفنان ناجي جبر (أبو عنتر) وهو يعمل في صيانة التلفزيونات، ويقوم بفكها بالتكسير والخبط، ولعل هذا ما فعله بشار الأسد وهو يعالج الوضع في سوريا ويحاول إصلاحه، فقد استعمل الصواريخ والطائرات والتعذيب، مثلما استعمل أبو عنتر الضرب والتكسير في فك التلفزيونات!
مشهد أبو عنتر كوميدي وطريف، ومشهد بشار الأسد إجرامي كلّف الشعب السوري مئات الآلاف من الشهداء وملايين الجرحى والمعوقين والأيتام والمهجرين، سواء ذلك من المؤيدين أو من المعارضين.
يتوجب اليوم على المؤيدين التقارب مع أغلبية الشعب السوري، وتجاهل هذا النظام المرفوض من قبل معظم السوريين، بمن فيهم الكثير من المؤيدين أنفسهم الذين اضطروا للوقوف مع النظام بسبب توريطه لهم وتخويفهم من فزاعة الإرهاب التي رعتها أجهزة مخابراته.
يحتاج ذلك إلى شجاعة من الأطراف التي لم تقف منذ البداية مع ثورة الحرية، أو تلك التي وقفت على الحياد مكتفية بالتفرج وانتظار المنتصر لتقدم له التأييد، ويحتاج إلى بروز إرادة حقيقية وصادقة في الحفاظ على ما تبقى من البلاد ومن الشعب الذي مزقه هذا النظام وزبانيته بالشراكة مع المتطرفين الدينيين والطائفيين.
ويحتاج إلى نبذ كل تدخل أجنبي اعتبارًا من الإيراني وانتهاءً بالأمريكي، والتفاوض مع القوى الدولية المتدخلة بصوت وإرادة واحدة، وإنقاذ بلادنا قبل أن تصبح محتَكَرة للعنف، وللإرهاب، ولتناسل أجيال جديدة من التنظيمات الإرهابية الإيرانية، والمافيوية الروسية، والداعشية، وللبيدا القومية الماركسية المندفعة بشغف وتهور في تحالفها مع القوات الأمريكية.
ملاحظة أخيرة: كولومبيا بلد ماركيز، كاتب الرواية، لم يستطع شعبها التقارب ضد الاستبداد والإرهاب، وظلت الحرب فيها مستمرة حوالي خمسين عامًا، وأعلن عن وقفها رسميًا يوم 23 حزيران 2016.