روسيا تراكم “ديونًا كريهة” في سوريا
عنب بلدي – مراد عبد الجليل
بدأت المطامع الروسية في الاقتصاد السوري تظهر للعيان، بعد عامين تقريبًا على إعلان تدخلها عسكريًا، في أيلول 2015، لمساندة النظام السوري ورئيسه بشار الأسد ومنع انهياره.
التدخل العسكري، وإن كان يهدف إلى تعزيز قدرة روسيا التوسعية في المتوسط عبر الحفاظ على القواعد العسكرية في سوريا وإنشاء أخرى، عبر التذرع بحماية النظام السوري، الذي تعتبره شرعيًا، ومحاربة الإرهاب وفي المقدمة تنظيم “الدولة الإسلامية”، إلا أنها تبحث عن ثمن كبير اقتصاديًا، بحسب ما قاله الباحث الاقتصادي مناف قومان لعنب بلدي، وهذا الثمن ترجم من خلال توقيع اتفاقيات طويلة الأمد في مجالات حيوية كالنفط والغاز، إضافة إلى احتكارها توريد المادة الاستراتيجية (القمح) إلى سوريا.
كل هذه الاتفاقيات جعلت ثروات سوريا تحت هيمنة روسيا لسنوات طويلة، في حال بقي النظام الحالي أو رحل، ما قد يحرم السوريين من ثرواتهم وإدارة مواردهم في المستقبل.
علاقات اقتصادية بدأها الأب ووطدها الابن
العلاقات الاقتصادية بين دمشق وموسكو ليست وليدة الثورة السورية، وإنما يعود تاريخها إلى الاتحاد السوفيتي، كما عمل الرئيس السابق، حافظ الأسد، على توطيد العلاقات الاقتصادية بين البلدين، فتم توقيع اتفاق بين الحكومتين السورية والروسية للتعاون التجاري والاقتصادي في 1993.
وبعد وصول الأسد الابن إلى سدة الحكم في عام 2000، عمل على توطيد العلاقات التجارية والاقتصادية أكثر بين البلدين، فوقّع في عام 2005 قرابة 43 اتفاقية، شملت مجالات عدة أهمها الصناعة والتجارة والدفاع والصحة والطاقة والري.
وخلال زيارته إلى الكرملين في 2005، شطبت روسيا 73% من ديونها المستحقة على سوريا، أي 9.8 مليارات دولار من إجمالي ديون روسيا على سوريا البالغة 13.4 مليار دولار، مقابل موافقة الأسد على تحويل قاعدة طرطوس إلى قاعدة عسكرية ثابتة للسفن الروسية، بحسب الباحث الاقتصادي قومان.
هيمنة روسيّة على الاقتصاد السوري
بعد اندلاع الثورة السورية حاول نظام الأسد جر موسكو إلى المستنقع السوري عن طريق إغرائها بالميزات الاقتصادية التي يمكن أن تحققها جراء دعمه، فكانت البداية في توقيع اتفاق “عقد عمريت” في 2013، وهو اتفاق ضخم مع شركة روسية، ويعتبر الأول من نوعه من أجل التنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية السورية.
ويشمل العقد عمليات تنقيب في مساحة 2190 كيلومترًا مربعًا ويمتد على مدى 25 عامًا، بكلفة تبلغ 100 مليون دولار، بتمويل من روسيا، وفي حال اُكتشف النفط أو الغاز بكميات تجارية، ستسترد موسكو النفقات من الإنتاج، بحسب ما قاله المدير العام للمؤسسة العامة للنفط في حكومة النظام، علي عباس، لـ “فرانس برس” في 2013.
وبعد التدخل العسكري الروسي بدأت هيمنة روسيا على النظام تظهر للعيان، عن طريق توقيع اتفاقيات عدة في مجالات مختلفة، منها اتفاقيتان بقيمة 600 و250 مليون يورو، عام 2016، من أجل إصلاح البنى التحتية التي دمرها “الصراع”، إضافة إلى بناء محطات كهربائية وصوامع للحبوب ليصبح “السوق السوري مفتوحًا أمام الشركات الروسية، لكي تأتي وتنضم وتلعب دورًا مهمًا في إعادة بناء سوريا والاستثمار فيها”، بحسب ما قاله رئيس النظام السوري، بشار الأسد، في مقابلة مع وكالة “سبوتينك” الروسية، في نيسان الماضي.
وآخر هذه الاتفاقيات ما نشرته شبكة “فونتانكا” الروسية الإلكترونية، في 29 حزيران الماضي، حول مذكّرة تعاون وقّعتها شركة “يوروبوليس” الروسية مع وزارة النفط والثروة المعدنية السورية مطلع العام الجاري، تنص على التزام الشركة بـ “تحرير مناطق تضم آبار نفط ومنشآت وحمايتها”، مقابل حصولها على ربع الإنتاج النفطي.
كما باشرت شركة روسيّة، يملكها الملياردير غينادي تيموشينكو، بتنفيذ أعمال صيانة منذ مطلع حزيران الجاري، لأكبر مناجم فوسفات في سوريا، التي تقع في منطقة خنيفيس قرب مدينة تدمر، بحسب تقرير نشره موقع “روسيا اليوم”، في 27 حزيران.
وأكد تقرير “روسيا اليوم” أن الأسد صادق على اتفاقية، في 23 نيسان الماضي، بين المؤسسة العامة للجيولوجيا والثروة المعدنية في سوريا وشركة “STNG Logestic”، التابعة لمجموعة “ستروي ترانس غاز”، التي يملك تيموشينكو 31% منها، بهدف تنفيذ أعمال الصيانة اللازمة للمناجم وتقديم خدمات الحماية والإنتاج والنقل إلى مرفأ التصدير “سلعاتا” في لبنان.
آثار مدمّرة للعقود
الباحث مناف قومان أكد أن العقود والاتفاقيات بين روسيا وسوريا سيكون لها آثار مدمرة على الاقتصاد السوري على المدى البعيد، فهي ستكبّل الاقتصاد والحكومة السورية المستقبلية، وتمنعها من القيام بأي خطوات تنموية من شأنها الاستقلال بالقرار الوطني واستغلال ثروات سوريا الطبيعية، مؤكدًا أن “أي عملية تنموية ستصطدم بحائط روسي وإيراني (وقعت طهران أيضًا مع النظام اتفاقيات عدة) يعترض العملية، بحيث تفرض أجندتها الخاصة بها بما تفيد الدولتين أكثر ما يفيد الدولة السورية والمواطن السوري”.
وشدد قومان على خطورة العقود المتعلقة باستثمار موانئ نفطية وحق التنقيب عن النفط والغاز والفوسفات واستخراجهم، لأنها ستكون مسلوبة لصالح روسيا وإيران، وستعمل الدولتان على “مص الثروات” دون مراعاة أي مصالح وطنية للسوريين، وقد تبيع الشركات الروسية النفط والغاز والفوسفات المستخرج من الأراضي السورية بأسعار عالية، وهذا سيترتب عليه آثار سليبة على الحكومة والمواطن من حيث التكاليف والأثمان الداخلية.
اعتبارها “ديونًا كريهة” قد يكون المَخرج
الاتفاقيات التي تعتبر مجحفة بحق السوريين برأي كثيرين، تعتبر من الناحية القانونية ملزمة ونافذة كون الجانبان أعضاء في مؤسسات الأمم المتحدة، لكن وزير الخدمات في الحكومة السورية المؤقتة التابعة للمعارضة السورية، عبد الله رزوق، أشار في حديث سابق إلى عنب بلدي إلى أن هذه الاتفاقيات ملغاة من الناحية القانونية لعدم وجود حكومة شرعية من قبل كامل الشعب السوري ومختارة منه، وأنه عند عودة الأمور إلى طبيعتها واختيار الشعب من يحكمه، سيعاد النظر في كل الاتفاقيات مع إيران وغيرها ممن يقبضون ثمن قتل الشعب.
لكن قومان اعتبر أن الاتفاقيات التصقت بالأرض السورية بشكل قانوني بحت، ولن يهمها بعد اليوم بقاء النظام من عدمه، فلا توجد أي قوة عالمية يمكن أن تحركها من مكانها، لأن اتفاقياتها موقعة مع حكومة النظام السوري الذي مايزال يحظى بشرعية دولية، ولديه كرسي في مجلس الأمن، وسفاراته حول العالم تعمل، وتوقيعه على الوثائق والعقود سارٍ بشكل قانوني.
وأشار قومان إلى إمكانية التخفيف من وطأة تلك العقود ومجاراة الروس والإيرانيين، عبر إيجاد آلية معينة لا تضر الاقتصاد والمواطن في المستقبل، وهذا يعتمد على شكل العملية الانتقالية السياسية في المستقبل ومن سيكتب الدستور السوري وآلية تشكيل البرلمان والنظام السياسي الذي سيسري في البلاد.
أما في حال قيام برلمان ودستور ونظام سياسي وطني يعبر عن رغبة الشعب السوري واستقلاليته، يمكنه أن يلغي العقود الموقعة من طرف النظام مع روسيا وإيران، بحسب قومان، بحجة أنها “ديون كريهة” استخدمت ضد إرادة الشعب السوري وتضر بمصالحه.
الديون الكريهة ظهر مصطلح “الديون الكريهة” لأول مرة في عام 1927 من قبل الوزير الروسي السابق وأستاذ القانون في باريس، ألكسندر ناحوم ساك. وبحسب قانون ساك، فإن “أي نظام استبدادي حصل على قرض، ولم يكن الهدف منه تلبية حاجات ومصالح الدولة، وإنما تقوية هذا النظام الاستبدادي وقمع السكان الذين يحاربون هذا الاستبداد، فإن هذا الدين يعتبر كريهًا، وهو غير ملزم للدولة، إنما هو محسوب على النظام المستبد باعتبارها ديونًا شخصية وبالتالي فهي تسقط بسقوطه”. ويشير القانون إلى أنّه يمكن لحكومة أن تتخلى على التزامات سابقتها، لأن هذه الديون لا تستوفي واحدة من الشروط التي تحدد شرعية الديون في كون أن المبالغ المقترضة باسم الدولة يجب أن تستخدم في تلبية حاجات ومصالح الدولة. ووفقًا لذلك فإن “الديون الكريهة” هي الديون التي تتوفر فيها الشروط الثلاثة الآتية في آن واحد: غياب الموافقة إذا مُنح القرض ضد إرادة الشعب، وغياب المصلحة العامة إذا صرفت الأموال على نحو يتعارض ومصالح السكان، ومعرفة الدائنين بالنوايا السيئة للمقترضين. |
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
English version of the article
-
تابعنا على :