«سوء الظن عصمة» المجتمع السوري، بين الشك والفطنة
عنب بلدي – العدد 108 ـ الأحد 16/3/2014
«فلان شبيح فلا تتكلم معه.. لا تقل أي كلمة أمام ذاك لأنه عوايني.. إياك التقرب من فلان لأن والده ضابط كبير وستصبح رقبتك بيده.. ابن جاركم مع الجيش الحر وبلحظة يرسل الشباب فيختطفونك، ويُمحى أثرك.. زوج خالة ابن عمتك عقيد طيار بالجوية وبإشارة منه تصبح أنت وكل عائلتك بخبر كان.. فلان مع جبهة النصرة وآخر مع داعش وحالش أو محسوب على الجماعة الفلانية.. كن معارضًا مع المعارضين، ومؤيدًا مع المؤيدين، وتلون بكل لحظة لونًا وشكلًا.. وإياك ثم إياك أن تصدر ولو إشارة تعبر فيها عن رأيك فالكاميرات منتشرة بكل البلد والحيطان لها آذان.. امش الحيط الحيط وقل يارب السترة.. والناس أفاعٍ ملونة كلٌّ يضمر لك سوءًا وشرًا»، وعبارات أخرى كثيرة من هذا القبيل بتنا نسمعها كل يوم وبشكل كبير.
حيث شاعت ظاهرة سوء الظن بالآخرين، وأصبح الناس يصنفون بعضهم حسب وجهات النظر لدرجة أن همّ الكثيرين بات منح صكوك الغفران للناس وحجبها عن آخرين، وأصبحت مقولة أكثم بن صيفي التميمي «حسن الظن ورطة، وسوء الظن عصمة» هي القاعدة التي يمشي عليها المجتمع السوري، غير آبه بما يسببه سوء الظن من قطع أواصر الود والرحماء، ونشر الحقد والبغضاء بيننا، حيث يبقى الآخر بنظر البعض متهمًا حتى يثبت العكس، وحتى الكلمة الطيبة باتت تؤول وتفسر بحسب درجة سوء الظن أو حسنه.
ترى سمر، المعتقلة السابقة في سجون النظام، أن حسن الظن بالآخرين ورطة، خاصة في ظل الثورة، «التقيت أناسًا جددًا لم أكن أعرفهم، ولا يجمعني بهم سوى العمل، وتعرضت لمشاكل كثيرة بسبب عدد منهم أوصلتني إلى زنزانة الفرع». وتقول سمر إن مشكلة التواصل بين العاملين عبر شبكة التواصل الاجتماعي دونما التواصل الشخصي تلعب دورًا كبيرًا في سوء الظن هذا «أكثر من شخص عملت معهم بتوصية من آخرين، وكل واحد بالمجموعة يصل أحد الأعضاء بآخر، وهكذا لتتكون لدينا شبكة تواصل وعلاقات، فنوزع بعدها المهام، ولكن من المؤسف أننا صادفنا أكثر من حالة من أفراد المجموعة كان تواجدهم فقط لإفشال المخططات، وأساسًا دخلوا بأسماء وهمية، ولم نتمكن من التعرف على بعض بشكل شخصي إلا ضمن الفرع أثناء التحقيق معي، لأكتشف أن اثنين منهم كانا بأسماء بنات وهما شباب، وواحد منهم من عناصر المخابرات، اخترق مجموعتنا وبدأ ينسق معنا للعمل، وأوقع بنا بكمين أثناء اتفاقنا على تنفيذ أحد الأنشطة». وتعتقد سمر أن تجربتها هذه كفيلة بأن تجعلها تصل حد الإيمان بأن «حسن الظن ورطة».
ويذكر وليد، 26 عامًا، أنه دخل يومًا حوارًا مطولًا مع أحد أصدقائه عن الفكرة ذاتها، إذ يعتقد صديقه بأن للنصوص القرآنية دورًا في الحث على حسن الظن، كما في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} الحجرات12، وقد يتسبب ذلك في مشاكل للإنسان إن استمر حاله مع قلبه الطيب –حسب رأي صديقه- ويقول وليد «أنا أؤيد صديقي بأن النصوص جاءت لتحمل لنا نداءً بحس الظن بالآخرين، والتماس الأعذار لإخوتنا دونما أن نشك بهم، ولكن لا ننسى أن المؤمن كيّس فطن، يتقدم الحذر في كل أموره، ريثما تتبين له الحقائق».
تتخوف لينا، 19 عامًا، من أي اتصال يأتيها من رقم غريب، رغم أنها تسارع بالرد علّه يكون من أحد إخوتها المعتقلين، أو أحد المفرج عنهم يحمل لهم بشارة خير من إخوتها، ولا تستطيع أن تخرج من حالة الشك في كل ما يدور حولها «إذا كنت واقفة بالطريق، وفجأة وقفت سيارة بقربي، أمشي بسرعة، يراودني شك أن هذه السيارة توقفت لاختطافي، وإذا أبطأ أحدهم في خطواته، واقترب مني لا يخطر ببالي إلا أنه يقصد التحرش بي، فأتجنبه بسرعة قبل أن يقترب أكثر».
وشعور مشابه ينتاب أم فراس، والذي مر على اختطاف زوجها ما يقارب العام، دونما أي إشارة عن الخاطفين، حيث تتهم الجيش الحر والجيش النظامي باختطاف زوجها، «زوجي كان ضابطًا برتبة رفيعة بالجيش السوري، واختفى فجأة، ولا نعلم شيئًا عن حيثيات اختفائه، فقد وصلته تهديدات قبل الاختطاف من عدة جهات تابعة للجيش الحر إن لم ينشق عن النظام وينضم لهم، وأخرى من جهة النظام بحال قام بتسريب أي معلومات للمسلحين، أو قام بدعمهم بالسلاح وما شابه» ومن لحظة اختفاء زوجها، والخوف لا يفارقها على طفلها الوحيد فراس، وترتعش أركانها كلما رأت مسلحًا من كلا الطرفين، أو غريبًا ينظر إلى ابنها. أم فراس ممنوعة من السفر هي وابنها، لأن دفتر عائلتها مكتوب عليه أن زوجها ضابط «وإلا ما كنت بقيت بالبلد ولا لحظة من شدة خوفي على فراس»، ولذلك فهي ترافقه في خطواته من خوفها عليه من الاختطاف مثل ما حصل مع والده، ووصل بها الهوس لدرجة الشك حتى بأقرب الناس إليها، خصوصًا «لما حدا مثلًا بيعرض مشوار على فراس».
ريم، الطالبة في الصف التاسع، تكاد تختنق من تعليمات أمها الصارمة لها كل يوم قبل الذهاب للمدرسة «ما تحكي ولا كلمة عن الثورة، رفقاتك ممكن يسببولك أذى»، ووصل الحد مع ريم إلى درجة أنها تخشى الحديث بصوت مرتفع حتى في البيت، لأن قاعدة أمها «الحيطان إلها آذان» تسبق قرار ريم بالكلام. ترى ريم أن شكّها المستمر بالآخرين يفقدها الكثير من الأصدقاء «رفقاتي ما بقى تحملوني وقل عددهم بالفترة الأخيرة من ضغطي المتزايد عليهم، وشكي الدائم بتصرفاتهم».
جهاد، 23 عامًا، اتصل به ابن خالته وطلبه لأمر عاجل، واتفقا على مكان اللقاء، وحضر جهاد بالموعد المحدد، ليجد أن ابن خالته قد تم اعتقاله، وأجبره المحقق على الاتصال بجهاد، بعد سماعه آخر اتصال بينهما، واعتقل جهاد عبر هذا الكمين، والذي كان ابن خالته جزء منه، لتنتقل عدوى الشك إلى عائلة جهاد، وتضطرب العلاقة الأسرية بين العائلتين.
ورغم التعليقات الساخرة من قبل المقربين من أم سمير، 54 عامًا، لأنها عزفت عن ركوب سيارة الأجرة (تكسي) بشكل قطعي، ومنعت أولادها عن ذلك، حيث تعتقد أن غالبية سائقي هذه السيارات يعملون لصالح جهات أمنية، وهدفهم استدراج الناس بالكلام، «صارت قصة مرة مع جارتي، كانت طالعة بسيارة تكسي والشوفور بلش يستدرجها بالكلام لخبرته كتير تفاصيل عن أولادها ونشاطهم بالثورة، وكمل الشوفور مشواره بجارتي على فرع الأمن، ومن يومها حلفت يمين لا أنا ولا أولادي نركب سيارة أجرة، رغم أنو كل جيراني وصديقاتي بعلقو كتير بسخرية من باب مين رح يخطفني وأنا بهالعمر».
بينما امتنع السيد أبو حسين عن إرسال بناته إلى المدارس خوفًا من اختلاطهن مع أخريات لا يعرف تربيتهن وأخلاقهن «أنا ربيت بناتي أحسن تربية، وواثق بهم، ولست خائفًا من أن يقعوا في الخطأ، لكنني أخاف من المجتمع السيء من أن يؤثر على أفكار بناتي، وطريقة حياتهم»، والفتاة في المجتمع في النهاية هي زوجة وأم في بيت الزوجية، بحسب أبو حسين.
وهكذا يمضي أفراد المجتمع يومياتهم بين الخوف من الوقوع بورطة من حسن الظن بأحدهم، والأمل بالنجاة بسبب سوء الظن بالآخرين، وبطريقة عفوية دونما أن يستذكروا كل لحظة حكمة أكثم الجاهلي المعاصر.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :