عنب بلدي – حنين النقري
يتردّد منذ أزيَد من ألف عام شطرٌ من الشعر على ألسنتنا في مثل هذه الأيام، يشكو تكرار الأعياد دون فرحةٍ جديدة ولا حالٍ أحسن مما كان. ورغم أن القصيدة جاءت في سياق الهجاء السياسي إلا أن تناقل البيت عزله عن سياقه فأصبح كلٌ منا يلبسه صبغة همومه ومشاكله، ومع كل التحولات والتبدلات التي جرت بعد قرون من وفاة الشاعر، إلا أن الجميع يكمل بيت الشعر مرددًا تساؤل المتنبي بالحسرة ذاتها “بما مضى أم لأمر فيك تجديد؟”.
ولعلّ التحولات التي عايشها السوريون في العقد الأخير من الزمان، مما يستلزم عقودًا طويلة من حياة الأمم عادةً، جعل أعيادهم تصطبغ بالجدّة والتنوع، لدرجة اختلاف ظروف كل عيد عن سابقه، أيما اختلاف.
1 شوال 1430
36 يومًا في بيت خالته
في الأعياد العادية، كانت السيدة هدى، وهي ربة منزل أربعينية من ريف دمشق، تحرص على التقيّد بطقوس عيد الفطر لاستحضار أجوائه في منزلها، تقول “كنا نجتمع في بيت والدة زوجي أنا و(سلفاتي) لصنع المعمول ليلة العيد، ويكون ذلك بعد (تعزيل) المنزل، وشراء الملابس الجديدة لأبنائنا خلال رمضان أو قبله، مثل كل العائلات السورية تقريبًا، لكن رمضان تلك السنة كان مختلفًا تمامًا، بشكل لم نحسب له حسابًا، إذ اعتقلت المخابرات زوجي في العشر الأخير من رمضان، كان ذلك أسوأ عيد في حياتي، لم نكن معتادين على قصص الاعتقالات فقد كانت هذه الحادثة قبل الثورة”.
ولاعتقال زوج السيدة هدى قصّته، ترويها لنا بطريقتها، تقول “في ذلك العام، قرر زوجي أن نسافر للسعودية لتأدية العمرة، ونظرًا لوجود رحلات برّية، قررنا أن نصطحب أبناءنا الأربعة معنا، فنعتمر، ويتعرفون هناك على عمهم (أخو زوجي) الذي لم يلتقوا به من قبل، بسبب هربه من سوريا في الثمانينيات لانتمائه لجماعة الإخوان المسلمين”.
أدّت العائلة العمرة في شعبان، والتقت في أروقة الحرم المكيّ بالعمّ المُبعد عن بلاده، وعادت إلى سوريا مطلع شهر رمضان المبارك، تكمل السيدة هدى “لم نتوقع أن يصل لقاء زوجي بأخيه لسوريا، لم نصطحب معنا أي كتب أو شيء له علاقة به، لكن بشكل ما وصل الخبر، والمخابرات داهمت منزلنا في العشر الأخير من رمضان واعتقلوا زوجي، حيث أمضى في الفرع ستة وثلاثين يومًا بالتمام والكمال، قبل أن يُفرج عنه”.
1 شوال 1932
ينعاد عليكم بسقوطه
بعد خمسة أشهر من الثورة، كان العيد الأول للسوريين فيها، والذي سمّاه البعض “عيد الشهيد” وأطلق عليه آخرون “العيد الحزين”، وفيه امتنع معظم السوريين عن طقوس العيد، وغيّبت أسماء الشهداء فرحته، يقول صهيب، طالب طب بشري في جامعة البعث، “كانت المظاهرات في أوجها في المدن السورية ومن بينها حمص حيث أقيم، في رمضان كنا نتظاهر بمظاهرات مسائية بعد التراويح”.
“وبالنسبة للعيد فكان هناك اتفاق بين الجميع أن فرحة العيد لن تكون مادام الأسد على رأس السلطة، وما دام شلال الدم في ازدياد، وهكذا تقريبًا أجّلنا كسوريين فرحتنا بكل شيء”، يضيف صهيب “فمثلًا في الجامعات أعلنّا إضراب الكرامة (لا دراسة ولا تدريس حتى يسقط الرئيس)، وقلّت وتيرة الأعراس والأفراح حتى كادت تتوقف تمامًا، التجار في الأسواق أوقفوا أعمالهم أيضًا، وكذلك طقوس الأعياد، فتكاد لا تزور منزلًا واحدًا تجد فيه ضيافة أو حلويات العيد المعتادة، وبالطبع لم يكن الأمر حينها عن فقر أو قلة توافر للحلويات بل كان اختيارًا نابعًا من الإحساس بآلام أهالي الشهداء والمعتقلين، وإصرارًا على استمرار الثورة، وبدل أن تكون المعايدة (ينعاد عليكم بالخير والسلامة)، كنا نقول (ينعاد عليكم بالنصر) و(ينعاد عليكم بسقوطه)”.
1 شوال 1434
هل لأهل المعتقل عيد؟
ولئن كان الامتناع عن الاحتفال بالعيد اختياريًا في بداية الثورة، إلا أنه صار في إحدى مراحلها المتقدمة اضطراريًا أجبر التصعيد الأمني وتدهور الأوضاع المعيشية السوريين عليه، ومن بينهم السيدة أم براء (36 عامًا) من غوطة دمشق، وتحدّثنا عن عيدها فتقول “كان عيدي الأول بعيدًا عن بيتي، بدون أهلي، أو إخوتي، وكان العيد الأول لنا دون أن نعرف مكان أخي، حيث اعتقل في نهايات عام 2012، مع كل شهر يمرّ كان أملنا بلقائه أو بقائه على قيد الحياة يتضاءل”. تصمت تأثرًا للحظات، وتتابع “أكيد عندنا ثقة برحمة رب العالمين، لكننا واثقون أيضًا بحجم إجرام النظام وتنكيله بمعارضيه، وهو ما تأكد لاحقًا بخبر استشهاد أخي تحت التعذيب”.
أجبر التصعيد والقصف على غوطة دمشق السيدة أم براء وزوجها على النزوح كآلاف العائلات، واتجهوا إلى مناطق الريف التابعة للنظام، تقول “بثيابنا التي على أجسادنا خرجنا، ولجأنا لبيت أشخاص لا نعرفهم، أهلي في الغوطة بعيدون عني، تفصل بيني وبينهم حواجز وجيوش، وأنا في غرفة من منزل عائلة غريبة بعد أن كان لي بيت، صدقيني كنتُ أنتظر العيد لينتهي ويمرّ، وأنا أرى أبنائي بخوفهم وحسرتهم ونظراتهم لسواهم من الأطفال، فهل للنازح عيد؟”.
1 شوال 1438
لا تؤجّل الفرحة
مازالت السيدة أم براء بعيدة عن منزلها في الغوطة، كبر ابنها، الذي نزحت به رضيعًا، وصار في سنّ الروضة وهو لا يعرف بيته، حارته، عائلة أمه وعائلة أبيه، “بس شو ذنبه ما يفرح بالعيد” تستأنف أم براء، وتضيف “في البداية كان من الصعب عليّ تقبّل الوضع الذي نحن فيه، وأجّلت كل شيء في حياتي وحياة عائلتي حتى العودة للغوطة، لكن بعد نزوحنا بأشهر حوصرت الغوطة وصار الدخول إليها شبه مستحيل، وضعنا المادي لا يساعدنا على تحمل تكاليف السفر خارج سوريا، لذا لم يكن أمامنا إلا التأقلم، عثر زوجي على عمل في أحد المعامل واستأجرنا منزلًا من غرفتين، وكذلك بدأتُ أنا بالعمل بتصليح الثياب وأنواع الخياطة البسيطة”.
عن عيد الفطر لهذا العام تقول أم براء إنها حاولت التحضير لأجواء فرحة بأبسط الإمكانيات، تضيف “عزّلت المنزل (عالناشف) بسبب عدم وفرة المياه، واشتريت أقمشة وخيّطت لأبنائي ملابس للعيد، كما أنوي صنع البيتيفور منزليًا، كبديل عن معمول العيد”.
وللمغترب عيد
“عيد الفطر مكافأة من رب العالمين للصائم، وطالما صمنا برمضان ففرحتنا بالفطر موجودة”، يقول الحاج أبو محمد، ستيني مقيم في مدينة اسكندرون جنوب تركيا، ويتابع “مازلنا غرباء في هذا البلد، وشعور الغربة صعب وقاس، لكن هل نوقف كل حياتنا حتى يسقط نظام تدعمه كل بلدان العالم؟ خرجنا من بلادنا ولا ندري متى نعود، لكن ما هو أكيد أن عدم فرحتنا بالعيد لن تقرّب موعد رجوعنا أو سقوط الأسد”.
ويشير الحاج أبو محمد إلى وجود غصة بأفراح السوريين جميعهم بسبب استمرار آلامهم وظلم العالم لهم حسب تعبيره، ويضيف “أوقف أبنائي دراستهم في بداية الثورة، وامتنع ابني عن الزواج حتى سقوط النظام، فهل أسقطه ذلك؟ عودة الناس للبحث عن الفرحة واقتناص فرصتها ليس بسبب تحسن الأوضاع، سواء هنا أم في داخل سوريا، بل بسبب استمرار تدهورها وانحدارها للأسفل، لذا لا يجب أن نضيع المزيد من الفرص، نحاول أن نفرح بمن تبقى من أبنائنا وعائلاتنا، ونهنئ الجميع ونقول (ينعاد علينا بالعودة والنصر، وسقوط النظام)”.