عنب بلدي – بيلسان عمر
عرّف القدماء اللّغة بأنها أصوات يعبّر بها كل قوم عن أغراضهم، ويعتبرونها جزءًا أساسيًا من الموروث الثقافي الشعبي الخاص بكل منطقة، ويستخدمونها وسيلة أساسية للتواصل، وحتى أصغر ذرة في الطبيعة لها لغة خاصة بها تتعامل بها مع أبناء جلدتها. وعندما نفقد لغة للتفاهم مع الآخر والحوار معه، فإننا نفقد جزءًا كبيرًا من آليات قد تمكننا من العمل سوية، وإيجاد نقاط قوة معًا واستدراك نقاط الضعف، كما يدرجها باحثو الدراسات الأنثروبيولوجية كعامل من عوامل قوة الدولة.
تتميز لهجة أهالي داريا بتشابهها الكبير مع لهجة أهالي حمص، وباحتوائها على الكثير من المصطلحات التي قد يستعصي فهمها على أهالي المناطق الأخرى، وكما تتعرض داريا لهجمة شرسة من قوات الأسد، من دمار وقتل وتشريد واعتقال وحصار للمدنيين والمقاتلين في داخلها، وقطع الإمدادات الغذائية عنهم، وحرمانهم من أدنى مقومات الحياة، كذلك يرى بعض الأهالي أن لهجتهم باتت مهددة بالاندثار بعد تهجيرهم واندماجهم «القسري» مع أبناء المناطق الأخرى داخل سوريا وخارجها.
ترى عبير، الدارانية المهاجرة إلى أوروبا، أن اللغة هي الوطن والأهل «كلما سمعت كلمة من كلمات أهالي داريا القديمة تعود بي الذاكرة إلى بلدي وأهلي، وأتمنى لو أستطيع تعليم أولادي اللهجة الدارانية، أو حتى اللغة العربية، ولكن ظروف إقامتي تفرض علي أن أعلمهم اللغة الإنكليزية، ليتمكنوا من متابعة أمور حياتهم اليومية، حتى أنهم عندما يسمعوا اتصالي مع أهلي يتفاجؤون، ويظنون أنهم من كوكب آخر».
في حين يعتبر سامر، ابن التاسعة، أن لهجته الدارانية غير محببة بين أصدقائه في المدرسة «أنا بخجل أحكي بالديراني بالمدرسة، وبحكي شامي لأنو لما نزحنا من داريا صارت مدرستي بالمزة، ولما أرجع ع البيت بحكي ديراني، وبتخانق دايمًا مع أختي، لأنها ما بتحكي إلا ديراني بالمدرسة».
ويتخوف هاني، ابن الثلاثين، أن يتفوه بكلمة دارانية أمام زملائه في عمله الجديد «بقيت سنة بعد نزوحنا من داريا بدون شغل، وهلق الحمد لله توفقت بشغل جديد بس ما خبرتهم أني من داريا، حتى ما تتفتح العين علي أكتر، ويبلشوا العواينية وأولاد الحرام يشتغلوا شغلهم، ولهيك ما بحكي ديراني أبدًا».
وفي الوقت الذي يقلل فيه رشدي، 24 عامًا، من أهمية الظاهرة، حيث لا أهمية لخسارة لهجة محلية في خضم الخسارات المتتالية التي يتعرض لها السوريون برأيه، يقر بأنه بدأ يتخلى شيئًا فشيئًا عن لهجته الأصلية بسبب احتكاكه المتزايد مع أصدقائه من المناطق الأخرى بعد خروجه من سوريا، ويقول إن هذا التخلي كان ظاهرًا أساسًا في مرحلة ما قبل الثورة مع تزايد اختلاط أهالي داريا بأهالي العاصمة دمشق من خلال العمل أو الدراسة، وهو لا يرى على أي حال ما يدعو للقلق لخسارة لهجة محلية محدودة الاستخدام والتأثير.
على عكس رشدي، فإن بهاء، 23 عامًا واللاجئ في لبنان، يفتخر بلهجته الدارانية، ويعتبر لكنتها جميلة، وهو يصر على استخدامها في جميع المناسبات ومع جميع أصدقائه ومعارفه من مختلف المناطق، وزيادة على ذلك يحاول بهاء إظهار بعض الكلمات المميزة للهجته أثناء حديثه مع أبناء بلدته أو غيرهم من المناطق الأخرى.
بهاء يرى أن اللهجة الدارانية معرضة لخطر الزوال لدى معظم الأهالي النازحين في لبنان، وأن جيل الأطفال لن يحمل من لهجة داريا إلى النذر اليسير، وذلك بحكم اختلاطهم في المدارس وأماكن النزوح مع الأطفال اللبنانيين أو السوريين من مناطق سوريا المختلفة، وهو ما يؤثر بشكل ملحوظ على ثقافتهم ولهجتهم.
من جهة أخرى يؤكد حسام، اللاجئ إلى مدينة غازي عنتاب التركية والذي يجيد الإنكليزية، أنه رغم استخدامه للهجة الدمشقية مع جميع أصدقائه في العمل والدراسة منذ ما قبل الثورة، إلا أنه لا يستطيع التخلي عن لهجته، وهو ويستخدمها بشكل يومي مع أبناء بلدته الذين يقيم معهم في تركيا، كما أن بعض الكلمات القديمة في اللهجة الدارانية بات يستخدمها أكثر من أي وقت مضى على سبيل المزاح والفكاهة. يقول حسام «قد تموت اللهجة كلها، إلا كلمة (يو) المميزة للديارنة فإنها باقية».
وعن الكلمات المميزة للهجة الدارانية، تسرد أم محمد، وهي سيدة في الثمانينات من عمرها، بعض المصطلحات القديمة، والتي غاب معظمها، حتى عند أهالي داريا أنفسهم: «ولا» تستخدم في الشتم والنهر، «دشرني» أي اتركني واذهب عني، «هبّل بدني، نفض راسي» للتعبير عن استنكار لشيء ما مع دهشة بالغة، «يبقى صفي، يبقى أسود وسواده غامق، المشحر على حاله وباله، المصبغ على عينه، المنيّل على حاله، ينمحئ، يتحورق، يتشلخو شعره، المقوص، يتأمع، يقعد رزه، وضراب السخن، العين تطرقه، العين تسفقه» مصطلحات تستخدم للدعاء على شخص ما، «بلا شوشة» دلالة أن الفتاة بدون حجاب، «خصمك النبي، خصمك الله» تستخدم عندما يطلب أحدهم من الآخر أن يحلف يمينًا، «فضايل الله والنبي» للاستعاذة من شيء ما، «مرة اللوخر» أي مرة أخرى، «هلق تينة» تعني بعد قليل، «وخّر، أسّع» أي افسح مجالًا للآخرين، «هكتنح» أي هناك، «نتفة» وتعني كمية قليلة، «تشكل آسي» للتعبير عن شدة حب شخص للآخر، «شروي غروي» أي الكلام بدون أهمية، «سري مري، عم يخرفق» إشارة إلى شخص يخرج كثيرًا من بيته، «عيونها متل الخرز، نقطة بالمصحف» تستخدم للإشارة إلى جمال إحداهن الخارق، فعيونها ملونة، ووجهها مضيئ، «مأنزع» أي متكبر، «ألعلي» دلالة لأحدهم يحدث نفسه، «يو، ولي» وهي أدوات نداء للذكر والأنثى، «شنّو» تعني لأن، «يلوب، ينكوش» أي يبحث عن شيء ما، «عم يرطن، عم يترغل» أي يتكلم لغة ما بطريقة جيدة، «مي» تعني ماء، وغيرها الكثير من المصطلحات التي لم يعد يستخدمها سوى كبار السن.
اللهجة ما تزال مستخدمة بين أهالي داريا في مختلف أماكن لجوئهم ونزوحهم، كما يقول جهاد اللاجئ إلى تركيا منذ أشهر. ومع أن استخدامها ينحسر ضمن التجمعات الدارانية وبين الأهالي والأصدقاء من البلدة الواحدة برأيه، إلا أنه لا يظن أنها ستندثر مهما طالت مرحلة النزوح والتشرد، وأنها ستبقى لغة التواصل الأكثر استخدامًا بين أهلها على الأقل، وأنها ستحتفظ «بنكهتها ودلالاتها» التي يتعارف عليها أبناء داريا، «كالتفريق بين لكنة أهالي الحارة القبلية وأهالي الحارة الشمالية، ولهجة الفلاحين الخالصة، ولهجة المتعلمين والموظفين الهجينة»، يختم جهاد.
وإذا كانت اللهجة الدارانية واحدًا من العوامل المشتركة التي جمعت أبناء المدينة على مدى سنوات، فلربما سيكون إحياؤها عند عودتهم إلى المدينة جزءًا من تأقلمهم من جديد، وتعبيرًا عن ارتباطهم بمدينتهم.