
حساب لاجئ سوري لتحويل نقود إلى عائلته (عنب بلدي)
حساب لاجئ سوري لتحويل نقود إلى عائلته (عنب بلدي)
عنب بلدي – حنين النقري
“اكتب رسالة إلى عمك المغترب تحثه فيها على العودة للوطن”، موضوع التعبير الأكثر تكرارًا في المدارس السورية قبل ثورة 2011 فيها، ورغم هذا “الحثّ” الظاهريّ على العودة للوطن، فإنّ سياسة النظام كانت على الدوام المشجّع الأول للسوريين على الخروج منه، لأسباب لا تنتهي، ليس أولها التخلص من معارضيه السياسيين، وليس آخرها المكاسب الاقتصادية الكبيرة التي تحققها تحويلاتهم لأسرهم، وهو أمر ينطبق على معظم دول العالم النامي التي تشكل فيها التحويلات الأسرية تأثيرًا واسعًا وجزءًا كبيرًا من الناتج المحليّ.
ففي عام 2006 بلغت التحويلات المالية العالمية للمهاجرين والمسجلة رسميًا 232 بليون دولار حسب تقرير للبنك الدولي، ما جعل الأمم المتحدة تخصص يوم 16 حزيران من كل عام يومًا عالميًا للتحويلات الأسرية لتعزيز الأثر الإنمائي لها في بلدان المهاجرين الأصلية.
في هذا التقرير، تبحث عنب بلدي في دور التحويلات الأسرية من السوريين في الخارج قبل وأثناء الثورة السورية.
“لولا إخوتي في الخليج والمبالغ التي يرسلونها لنا من حين لآخر، لا أدري كيف كنا سنتدبر مصروفنا”، تقول السيدة ابتسام بحسرة، في منزل نزوحهم الصغير في إحدى بلدات ريف دمشق الخاضعة للنظام.
تتشارك ابتسام (44 عامًا) العيش في منزلٍ من غرفتين مع والدتها المسنة، وأخواتها الثلاث، بعد خروجهم من الغوطة الشرقية عام 2012 عقب اشتداد القصف عليها، لكن اعتماد العائلة في تأمين معيشتها على أبنائها الشباب في السعودية كان قبل ذلك بسنوات عديدة، تضيف “في منتصف التسعينيات سافر عمّي إلى السعودية للعمل هناك بعد أن أغلقت الأبواب بوجهه في سوريا، وهناك فتح الله عليه ورزقه، وأقنع أخي الكبير زهير بأن يلحق به ليعمل هناك، منذ ذلك الوقت ونحن نتلقى من حين لآخر مبالغ مالية تعتبر كبيرة مقارنة بمعيشتنا كسوريين، الأمر الذي ساعد والدي بتأمين قوت عائلتنا الكبيرة، والذي لم يقتنع يومًا بأن يسافر كعمّي”.
واحدًا إثر آخر، سافر إخوة ابتسام الشباب جميعًا إلى السعودية للعمل مع أخيهم الكبير هناك، تقول “افتتح أخي ورشة ميكانيك هناك، وأقنع إخوتي الثلاثة بالسفر والعمل معه، وهكذا صار لنا في السعودية عمّ وأربعة إخوة لا نراهم إلا صيفًا، لكنهم في المقابل ساعدوا والدي مع تراجع صحّته وقدرته على جني المال”.
رغم زواجهم واستقرارهم في السعودية، استمر الإخوة في إرسال مبالغ ثابتة لعائلتهم في سوريا، تتابع ابتسام “على الدوام كنا مسؤولية في أعناق إخوتي، فنحن ثلاث أخوات غير متزوجات، لم نحصل على شهادات تعليمية تتيح لنا العمل بها، ونعيش مع والد ووالدة مسنّين، لكن هذه المسؤولية تضاعفت مع بداية الثورة، وبشكل خاص اضطررنا للخروج من بيتنا ومدينتنا واستئجار منزل في منطقة آمنة”.
رغم سوء الأوضاع الأمنية، رفض والد ابتسام الخروج من بيته وحارته، تقول “أخبرنا أنه لن يخرج من الغوطة إلا على جثته، وبالفعل في نهاية عام 2013 توفّي هناك ولم نستطع أن نحضر جنازته أو أن نودعه بسبب الحصار المفروض على الغوطة، وبقيت أنا وأمي وأخواتي الثلاث في وحدة وغربة مضاعفتين، لولا إخوتي لكنا على الرصيف الآن، ولسنا الوحيدات في ذلك، الكثير من عائلات النازحين تعتمد على أقاربها في الخارج”.
كحال إخوة ابتسام، هاجر المهندس فوّاز (39 عامًا) من حمص إلى الإمارات بحثًا عن الرزق، وكحالهم أيضًا، صار مصدر مساعدات أساسيًّا لعائلته قبل الثورة وبعدها. يروي فوّاز بدايات قصة هجرته للخليج “فور تخرّجي من كلية الهندسة المدنية بدأتُ البحث عن عقد عمل في إحدى دول الخليج، نظرتُ إلى وضع من حولي ولم أرغب بأن أسير على شاكلتهم، فحتى (يكوّن الشاب حاله) ليتمكن من شراء منزل على الأقل يحتاج للعديد من السنوات، استغللتُ أنني وحيد أهلي ومعفى من الخدمة العسكرية وسافرتُ لأستلم أول فرصة عمل عُرضت علي في الإمارات”.
منذ عام 2001، بدأت مسيرة عمل فوّاز في الإمارات، والتي يقول إن بداياتها كانت متعبة جدًا “لم يكن الطريق معبّدًا بالورد على الإطلاق، ذقت الأمرّين واحتجت أربع سنوات لأقف على قدميّ وأحصل على فرصة عمل ممتازة، حينها تزوّجت، وبدأتُ بادخار مبلغ مكنني من شراء منزل خاص بي في الوعر في نهايات 2008، وهي فترة قياسية مقارنة بما نحتاجه في سوريا لنؤمّن ثمن منزل”.
استمرّ فواز بالعمل في الخليج شتاء وزيارة حمص صيفًا، ويضيف “لم أفكر بالعودة إلى سوريا ما دمت في عملي الحاليّ، أعمل في شركة عالمية والأجور فيها عالية، يقدّرون شهادتي وخبرتي بشكل كبير، وأزور بلدي في إجازات سنوية، فما الذي أريده أكثر؟ بالطبع كنتُ أرسل لأهلي وأخواتي المتزوجات هدايا عينية ومالية على الدوام، أعرف صعوبة المعيشة وتأمين القرش، وبشكل خاص عندما يكبر الأولاد وتكبر مصاريفهم، مثل دخول الجامعات أو الزواج أو ما شابه”.
ساعد فوّاز أبناء أخواته في دراستهم الجامعية، وتحمّل تكاليف دراسة أحدهم في التعليم الموازي، وعن هذا يقول “كل يوم أستشعر مدى قوة الشهادة الجامعية، كما يقولون الشهادة عزّ، ولم أرغب أن تقف الأعباء المادية أمام حصول أبناء أخواتي على الشهادات في الاختصاصات التي يميلون لها”.
مع بداية الثورة السورية، تحول إحساس فوّاز بالمسؤولية تجاه عائلته إلى شعوره بأن مساعدتهم على تأمين قوتهم واجب أساسيّ في رقبته، حسب تعبيره، ويقول “لم أكن لأقف متفرجًا على التصعيد في حمص وتوقّف أزواج أخواتي عن العمل، استقدمتُ والدتي لتعيش معي بعد وفاة والدي، وأرجو أن أكون قد أسهمت في تأمين حياة كريمة لأخواتي قدر الإمكان، فهو واجب ودين علي، كل مغترب يشعر بشكل مماثل تجاه عائلته خاصّة والسوريين عمومًا في الداخل”.
“كان المغترب يبعث لأهله مساعدات، الآن صار يحتاج من يساعده”، بهذه العبارة يلخّص السيد أبو شادي، ستيني من مدينة دمشق، حال المغتربين اليوم، ومن بينهم ابنه شادي في تركيا، يقول “كل السوريين الذين خرجوا بعد الثورة مهجّرون، لاجئون، ليسوا مغتربين، وظروفهم الاقتصادية بالكاد تسمح لهم بتأمين قوتهم، بشكل خاص الشباب الذين هربوا من الخدمة العسكرية مثل شادي، وهؤلاء تحديدًا يعتمدون على أهاليهم داخل سوريا لمدّهم بمساعدات مادية، وأحيانًا مصروف شهري يتكفل بمعيشتهم كاملة”.
يحمد الحاج “أبو شادي” الله على وضعه المادي الذي يتيح له مساعدة ابنه في الخارج، ويقول “خفت على شادي من الاعتقال أو السحب للعسكرية، فأرسلته منذ عامين ليدرس في تركيا، ورغم أنه لا يرغب بالاتكال عليّ ويعمل بنصف دوام لكن ذلك بالكاد يؤمّن له تكاليف المواصلات وأجار المنزل، لهذا أحاول أن أساعده قدر استطاعتي، صحيح أن الأوضاع الاقتصادية في سوريا سيئة لكنه ابني وأنا مجبور به”.
ويشير “أبو شادي” إلى أن التحويلات الأسرية المعاكسة (من الداخل للخارج) منتشرة إلى حد ما بين الميسورين ماديًا ممن سافر أبناؤهم خارج سوريا عقب الثورة، ويضيف “أختي باعت صيغتها الذهبية ليتمكن ابنها من الهجرة إلى أوروبا، وجاري يتكفل بمصاريف دراسة ابنه ومعيشته في ألمانيا، كل يقدّم على قدر استطاعته، المهم أن نساعد بعضنا البعض أينما كنّا”.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى