عنب بلدي – العدد 106 – الأحد 2/3/2014
• انا أحصّل نقودي بمفردي ولا أحد له علاقة بي.
• لا أريد مالًا، فقط اشتري لي القليل من الخبز وبعض الطعام.
• المشكلة تقع على عاتق المؤسسات المعارضة الموجودة على بعد أمتار من المتسولين.
يرى علماء الاجتماع أن أسباب التسول تعود إلى الفقر والجهل وسوء الوضع المعيشي أو الصحي، وغالبًا ما يكون المتسوّل بحالة صحية سيئة تَظهر لمن يشاهده، كأطراف مبتورة في جسمه، أو شلل، أو إعاقة عقلية. ويلجأ أولئك الأشخاص لاستخدام بعض الكلمات والعبارات لاستدراج كرم المارة «ساعدني أنا بحاجة»، «من مال الله يا محسنين»، «الله يعافيلك ولادك» وكلمات أخرى تستعطف الشخص المقصود وتدفعه لمد يده إلى جيبه.
لكن الأمر في شوارع اسطنبول مختلف، فهناك ينتشر مجموعة من المتسولين السوريين (صبيانًا وكبارًا) جميعهم بحالة صحية جيدة، ولا يظهر على أجسادهم أثر إعاقة أو إصابة، يستدرجون عطف الناس لهم بعبارة «ساعدني أنا من سوريا».
عنب بلدي التقت بالعديد من الأطفال والفتيات الذين يمتهنون التسول في هذه المنطقة، واستطلعت المشكلات التي يواجهونها، والأسباب التي دفعتهم للتسوّل في هذه المدينة، كما التقت عددًا من السوريين المقيمين في تركيا للحديث حول انتشار هذه الظاهرة.
- الأسباب التي دفعتهم للتسول
الطفل رائد، 13 عامًا، من مساكن هنانو بحلب، يقيم هو وأمه وأخته في اسطنبول، بينما يقيم والده، الذي يعمل بالتسوّل أيضًا، بحسب قوله، في مدينة أورفا. يتسول رائد يوميًا بالقرب من محطة الميترو في أكسراي، حاملًا ورقة كتب عليها باللغة التركية «أنا من سوريا، وضعي سيّئ، الله يرزقك، أحتاج إلى مساعدة».
يقول رائد إنه لا يحب شحذ الأموال، ولكنه اضطر للعمل بهذه المهنة للحصول على النقود كي يدفع الأجر الشهري لصاحب المنزل الذي يعيش فيه مع أسرته، ويضيف: أجمع أحيانًا مئة ليرة (تركية) وأحيانًا أقل.
الطفلة رغدة، 11 عامًا، من محافظة حلب أيضًا، توفي والدها منذ سنوات، يعمل أخوها الأكبر ناطورًا في أحد الأبنية، براتب شهري بالكاد يكفيهم أجرة المنزل والطعام، كما تقول، فتخرج مضطرة هي وأختها ووالدتهما للتسول طلبًا للمال من المارة في الطرقات، لشراء الدواء لأخيها الآخر المريض بداء السكري. لكن رغدة رفضت إرشادنا إلى منزلها وهربت مسرعة عندما عبّرنا عن رغبتنا بالتعرف على أسرتها من أجل تقديم المساعدة.
محمد جمعة، 12 عامًا، طفل آخر من حلب، لا يريد أن يتخلّى عن التسول، فهو لا يعتبرها مهنة سيئة، ويعتقد أنه يجني تلك الأموال بعرق جبينه. الطفل جمعة كان عصبي المزاج أثناء حديثنا معه، ووجه لنا الشتائم عندما سألناه عن دوافع التسول في الطرقات، لكنه تكلم بعد إلحاح متكرر قائلًا: «أنا من الصبح بطلع من البيت وما برجع لنص الليل وعم اتعب بجيب المصاري لأهلي وماحدا إلو علاقة فيني». في نهاية حديثه إلينا، طلب جمعة خمس ليرات فلم نعطه، فانهال علينا بالشتم والتهديد.
فتاة أخرى في العشرين عمرها، رفضت الإفصاح عن اسمها، بدا على وجهها حزن شديد، حالها يختلف عن رائد ورغدة ومحمد، فهي لا تتسكّع في الطرقات، وإنما اختارت السير والتقرب من المارة لتطلب منهم وجبة طعام أو خبزًا فقط. تقول الفتاة: «لا أريد مالًا، فقط اشتر لي القليل من الخبز وبعض الطعام».
- آراء الناس:
محمد، وهو طالب جامعي من محافظة إدلب، كان يجلس بالقرب منا أثناء اللقاء بأحد الأطفال المتسولين، اقترب محمد قائلًا: «لا تصدقه، فجميع الشحاذين في هذه الساحة كاذبون وقد امتهنوا جلب النقود من خلال المساس بمشاعر الناس». ويضيف محمد: «في إحدى المرات أعطيت طفلًا خمس ليرات بعدما قال لي إنه لا يملك منزلًا وينام في الحدائق منذ سنة كاملة، وبعد قرابة شهر كنت أجدد عقد منزلي عند صديقي السوري الذي يعمل في مكتب عقاري، فشاهدت الطفل ذاته يدخل المكتب ويعطيه 500 ليرة، سألت صديقي هل أعطاك أجرة منزل؟ فأجاب بنعم، وأكد لي أنه مستأجر لديه منذ عام ونصف تقريبًا».
لكن حسام، خريج كلية التربية بجامعة تشرين، كان له رأي مختلف: «قد يوجد هناك البعض منهم بغير حاجة ويمتهنون التسول، لكني أعتقد أن الأكثرية منهم في حالة معيشية صعبة واضطروا للتسول، وفي كلتا الحالتين تقع هذه المشكلة على عاتق العشرات من المؤسسات المعارضة الموجودة على بعد أمتار منهم».
- محاولة لتحميل المسؤولية
استنادًا الى أحد بنود عمل «وحدة تنسيق الدعم» والذي ينص على توفير الدعم لكافة المستحقين من السوريين الذين تضرروا بسبب آلة الدمار والخراب، وبعد تساؤل بعض السوريين عن مسؤولية المؤسسات المعارضة الموجودة بكثرة في تركيا إزاء هذه الظاهرة، قمنا قبل عدة أيام بمراسلة الوحدة عبر بريدها الرسمي ملخصين الظاهرة التي تعرضنا لها خلال الأسابيع الماضية واستفسرنا عن وجود إجراءات قامت بها الوحدة لمواجهة ظاهرة تسول السوريين في المدن التركية والسيطرة عليها، لكننا لم نتلقّ أي رد حتى تاريخ نشر هذا التحقيق.
- الفقر المادي ليس السبب الوحيد
الأستاذ محمد مأمون، وهو خريج علم نفس ومرشد نفسي في إحدى مدارس دمشق، أجاب عن تساؤلاتنا حول هذه الظاهرة، وتحدث عن أثرها على المجتمع وأفراده:
هذه الظاهرة ليس سببها المجتمعات الفقيرة فقط، وإنما تنتشر في المجتمعات الفقيرة الجاهلة والمفككة حصرًا، فهناك مجتمعات رغم معاناتها الفقر إلا أنها تحمل قيمًا دينية وأخلاقية تجعلها تحافظ على وحدة أُسرها وأفرادها منذ طفولتهم، إلا أن فقر بعض المجتمعات (المادي والأخلاقي) والذي يؤدي لغياب الوازع الأخلاقي، ينتج نظرة بأن أي عمل مهما كان رخيصًا هو «مهنة» كالتسول والدعارة وغيرها. ومن هنا تظهر قيادات لعصابات كبيرة من أطفال التسول، هذه القيادات تستغل الأطفال في ممارسة التسول مقابل الحماية وتوفير بعض المال، وهذا ما يفتقده الطفل في مجتمعه المفكك، ما يجعله يقدم على هذا العمل الذي لا يرى فيه أساسًا أي عيب بناءً على ما تعرض له من تربية منحرفة.
وحول آثار هذه الظاهرة على مستقبل الأطفال يضيف الأستاذ محمد:
حاضر هؤلاء الأطفال المشؤوم حتمًا لن يؤدي إلا إلى مستقبل مجهول من امتهان السرقة والسطو وغير ذلك من أمراض تنتشر في المجتمع، ولهذا لا تألو الدول جهدًا في مكافحة هذه الظاهرة لتحافظ على سلامة مجتمعاتها.
اسطنبول، المدينة التركية الأكثر جذبًا للسياح من مختلف أنحاء العالم، يندر أن ترى فيها متسولين محليين، وفي الوقت الذي حول فيه العديد من المحتاجين الأتراك مهنة التسول إلى عمل إمتاعي وإبداعي، من خلال الغناء وعزف الموسيقى في الشوارع العامة ومحطات الميترو مقابل ليرات ينحني المارة لوضعها من تلقاء أنفسهم، يمتهن بعض السوريين، على بعد أمتار منهم، الوقوف بألبسة مبتذلة ووجوه ذليلة يحملون هويات وجوازات سفر سورية يركضون بها وراء المارة متعلقين بثيابهم وأغراضهم.. «ساعدني أنا سوري»، في عملية تسويق لأسوأ صور الإنسان السوري في أكثر المدن احتضانًا للقضية السورية.