عنب بلدي – العدد 106 – الأحد 2/3/2014
على هامش المعاناة تتكاثر بعض الظواهر وتتوالد حتى تحتل متن المعاناة ودلالتها، شيئًا فشيئًا تستهلك الهوامش من يعاني، وتنسيه المعاناة ذاتها.
أم علي، إحدى اللاجئات الذين بلغوا الملايين الآن، في عام 1980 كان لديها عشر أولاد، خمسة ذكور وخمس إناث، وبعدها بعام لم يترك لها حافظ الأسد من شبابها إلا صغيرهم، رمى أحدهم في تدمر لعشرين عامًا، وثلاثة هربوا من سوريا ولم يدخلوها إلى الآن، في عام 2000 وحين حمل لنا ابنها الأصغر خبر وفاة حافظ الأسد بدأنا بالضحك وتبادل التبريكات ولكن أم علي نهرتنا بغضب قائلة: لا شماتة في الموت. لم يكف الأسد الابن كل هذا فاعتقل ابنها الأصغر في بداية الثورة السورية لشهرين ثم قتل لها حفيدها المدلل سعيد وشردها مع كل أهل المدينة. خرجت أم علي إلى الأردن وأولادها وأحفادها توزعوا بين الأردن ولبنان ومصر والخليج وتركيا. لم يعد من شيء يخفف عنها، كانت ترى من تبقى من الأولاد والأحفاد حولها في الدار، الآن لم يعد أحد حولها. لم تحتمل روحها كل هذا، فاضت أخيرًا، أي حياة هذه يا إلهي التي أمضتها أم علي؟ حضر أبناؤها جنازتها وهي بذلك أفضل من أبو العبد.
أبو العبد أصيب في حرب تشرين ثم تزوج بعدها وكان له تسعة أولاد، خمسة ذكور وأربع بنات، أمضى في تربيتهم سنينًا، رباهم شبرًا بشبر حتى كبروا وشبوا عن الطوق ليتربع على عرشه في وسط أبنائه وأحفاده، يحترم الجميع والجميع يحترمه، لا يحب حكم الأسد ولا يحب التدخل في السياسة كذلك. حين بدأت الثورة اعتقل النظام ابنه الأول لشهرين، ثم ابنه عبد، وما زال إلى اليوم مكملًا العامين، بعدها بشهرين استشهد ابنه الأصغر أدهم ثم هرب ابنيه الباقيين خارج سوريا. شردته الحرب مع الناس جميعًا، قالوا له إن مصر متعاطفة مع السوريين وإنها حنونة بالأسعار، لم يمض أسبوع حتى منعت سلطات 30 يونيو دخول السوريين بحجة كونهم «إرهابيون» متعاطفون مع الإخوان، أصبح أبو العبد وزوجته في مكان، وأولاده في كل مكان عدا مكانه، لا يستطيعون القدوم إليه ولا يستطيع الذهاب إليهم.
راحت أيام أبو العبد، يعد الأيام بلا معنى، كان يعدها ليكبر أبناؤه، الآن يعدها لينسى، كأم علي لم تحتمل روحه كل هذا، فاضت في مصر، لا أحد معه ولا أحد يستطيع أن يكون معه.
تقول الأمم المتحدة إن هناك ملايين السوريين اللاجئين داخل وخارج سوريا، ذكر قصة واحدة من هذه الملايين قد يكون له تأثير أكبر من ذكر الملايين كمجرد أرقام. «أنسنة» هذه الأرقام ومقاومة تجريدها عن المشاعر هو ما يجعلك تدرك فداحة المأساة السورية. بعد كل ذلك تستدرك لنفسك، ما معنى أن تدرك فداحة المأساة السورية أساسًا؟ إذا كان قرار سخيف من مجلس الأمن يحتاج لدمار بلد بأكمله، فما الحاجة لإدراك أي شيء حينها.