عنب بلدي – خلود حلمي
تعتبر محافظة دير الزور، شمال شرق سوريا، سلة الغذاء السورية وخزان ثرواتها الطبيعية، حيث تتوزع حقول النفط والغاز في كامل أنحاء المحافظة. ومنذ تحرير ريف محافظة دير الزور في آذار 2013، تنقّلت ملكية آبار النفط والغاز بين كتائب مختلفة بينما بقي بئر وحيد وهو «حقل التيّم» تحت سيطرة النظام. ونتيجة لهذه التغيرات، تغير النفوذ في المحافظة وفقًا لتغير الجهة التي تسيطر على الآبار وتملك الأموال وأبرمت اتفاقيات غير معلنة بين النظام وبعض الكتائب لتقاسم توزيع الثروة حسب مصالح كل منهما. كذلك شهد المناخ في المحافظة تغييرات كبيرة بسبب ظروف استغلال الثروة.
-
الكتائب: تنازع السيطرة على الآبار وتيسير وصول المدنيين للثروة
ومنذ بداية تحرير ريف دير الزور، وقعت آبار العمر والطيانة والتنك (نفط) وكونيكو وديرو (غاز) تحت سيطرة بعض الكتائب العاملة في المحافظة، وتنازعت الكتائب في المنطقة على مسألة السيطرة على حقول النفط إلى أن أشرفت الهيئة الشرعية على معظم حقول النفط والغاز في المنطقة. وأدى ذلك إلى تيسير وصول الناس إلى مشتقات النفط والغاز، حيث باتت تعرفة استبدال أنابيب الغاز المنزلية الفارغة بأنابيب مملوءة داخل مدينة دير الزور لا تتجاوز 500 ليرة سورية وذلك بعد تسجيل أدوار على جرة الغاز بحسب دفتر العائلة، يتم توزيعها بشكل غير منتظم، في الوقت الذي وصل فيه سعر جرة الغاز مسبقًا في المحافظة ذاتها إلى 4000 ليرة سورية، إن توفرت.
وفي مدينة البوكمال، قامت جبهة النصرة بشراء مصفاة نفط تعمل على الكهرباء، وأنتجت البنزين والمازوت بدرجة تصفية عالية، وقامت بتوزيع المحروقات بأسعار رمزية «أي بسعر التكلفة»، إلا أن هذه المصفاة تعرضت لقصف طائرات النظام بشكل يومي حتى قامت الجبهة بإزالتها بحسب ناشطين في المدينة، بينما تستمر مصافي النفط اليدوية «الحراقات» بالعمل بكافة أنحاء الريف، ولم يتم قصفها ولا لمرة واحدة، ما يثير الشكوك حول «تجار النفط» مالكي الحراقات العادية والذين يقومون ببيع النفط لتركيا والنظام.
-
النظام يتمسك بحصته في نفط دير الزور وكتائب «اللصوص» لها نصيب
وفي المقابل، لا يزال النظام يحتفظ بحقل التيّم وهو عبارة عن نقطة تجميع يرسل من خلالها النفط إلى حمص، ومؤخرًا بات إنتاج هذا الحقل شبه متوقف بسبب انخفاض نسبة النفط الذي يتم ضخه من بقية الآبار. ويقوم النظام بالضغط على مدينة دير الزور بقطع الكهرباء عنها والتي يتم توليدها عبر سد الفرات أو بواسطة الغاز، ما يؤدي إلى انقطاع الكهرباء عن المدينة لمدة تتجاوز عشرة أيام متتالية بحسب سكان مدينة دير الزور. ويقول ناشطون في المدينة إنه بالرغم من أن أنابيب النفط والغاز لا زالت تمد كل من حمص وبانياس بالنفط الخام، إلا أن النظام أوقف إمداد المحافظة بالمحروقات المكررة منذ عام ونصف تقريبًا.
من جهة أخرى، هناك طرف آخر حاول فرض سيطرته على بعض آبار النفط أو الأنابيب التي تنقله لباقي المناطق، مجموعة من «كتائب اللصوص» الذين قاموا بسطوة السلاح بالسيطرة على بعض الآبار واستغلالها لمصالحهم الشخصية وتوليد أموال طائلة. الأمر الذي أدى إلى تشكل طبقة من «سريعي الثراء» بحسب ناشطين فيها. ولم يقتصر الأمر على توليد أموال طائلة فقط، إذ عمد سريعو الثراء إلى شراء السلاح والولاءات ليكونوا كتائب تتبع لهم وتدافع عنهم بعد أن قاموا بتخصيص رواتب «للعاملين لديهم» من الأموال التي يجنونها من بيع النفط لتركيا أو حتى النظام.
كما يقوم بعض المدنيون بثقب أنابيب نقل النفط واستخراجه وتكريره بطرق بدائية جدًا إما بدافع الحاجة أو الطمع بتوليد أموال، فباتت تجارة رائجة ورابحة في هذه الأيام، ما أدى إلى تغيير كبير في المناخ بسبب التلوث الناجم عن استغلال النفط بطرق خاطئة، وهذا ما أدى إلى ظهور أمراض خطيرة كالتهاب الكبد الفيروسي وحالات سرطان وحمل كاذب إضافة إلى حوادث السير التي كثرت بسبب انسكاب النفط الخام على الطرقات.
-
سوء استغلال الثروة ينهك البيئة وانتشار للأوبئة
ولم يتوقف استغلال النفط بطرق بدائية على تدهور البيئة والصحة العامة فحسب، بل تعداها إلى تدهور الثروة الزراعية بسبب تلوث التربة بمخلفات النفط وتوقف الأهالي عن استغلال أراضيهم الزراعية إما بسبب تركهم لمدنهم وقراهم بسبب الاشتباكات بين فصائل الجيش الحر وقوات النظام وقصف طائرات النظام للمدن والقرى في المحافظة، أو بسبب انشغال الأهالي بتكرير النفط وبيعه بأسعار تدر عليهم أرباحًا أكثر من استغلال الأراضي الزراعية، ما أدى إلى توقف الإنتاج الزراعي بشكل شبه كامل في المحافظة وحرمان أهلها أولًا والسوريون ثانيًا من إنتاج المحافظة من القمح والمحاصيل الأساسية الأخرى.
-
اتفاقيات لتقاسم الثروة حسب المصلحة
وبعد أن تحررت محافظة دير الزور بشكل شبه كامل، عدا حيي الجورة والقصور في مدينة دير الزور، لا تزال أنابيب النفط والغاز الواصلة إلى حمص وبانياس على حالها والغاز يصل من محطة كونيكو في دير الزور إلى محطة جندر في حمص، وبسبب ظروف محافظة دير الزور الخاصة، تتم «صفقات» بين النظام وبعض كتائب الجيش الحر لتقاسم الثروة وفق اتفاقيات استراتيجية غير معلنة تتم بعد ضغط يمارسه طرف على الآخر بطريقة أو بأخرى. إذ يقوم الثوار بقطع أنابيب الغاز عن النظام، فيقوم الأخير بدوره بقطع الماء والكهرباء عن المدينة لأنه يتحكم بمجرى نهر الفرات وبحقل التيّم الذي يمد المدينة بالكهرباء. لذا عمد الثوار إلى عقد اتفاقيات تقاسم الثروة مع النظام على أساس «النفط مقابل الكهرباء».
وبحسب شهادة أحد سكان دير الزور، انقطعت الكهرباء الشهر الماضي لمدة عشر أيام متواصلة بعد أن قام الثوار بقطع الغاز عن النظام ومطالبته بمنح الدير 20 ساعة كهرباء يوميًا. وبعد مناقشات وأخذ وصد، توصل الطرفان إلى اتفاق بأن تأخذ محافظة الدير 200 ميغا واط تتوزع بين المدينة والريف بحيث يتم تشغيل الكهرباء 16 ساعة يوميًا تقريبًا.
وأما مدينة البوكمال، فتعاني من انقطاع في الكهرباء تجاوز 13 يومًا بسبب عطل في الشبكة، إلا أن بعض الكتائب العاملة في ريف دير الزور لم تسمح لعمال الكهرباء بإصلاح العطل بحجة الخوف على عمال الشبكات من الاشتباكات.
والجدير بالذكر أن مدينة دير الزور التي تعاني من حصار منذ عامين تقريبًا وتفتقر لأدنى مقومات الحياة، تحتوي على أكبر مخزن للنفط الخفيف في سوريا، يشكل إنتاج النفط فيها نحو 24 في المئة من ناتجها الإجمالي و25 في المئة من عائدات الموازنة، و40 في المئة من عائدات التصدير.
وتبقى الثروات الطبيعية في محافظة دير الزور، محط تنازع قوىً عديدة في المدينة تجعل منها مستهدفة من جهات عدة للسيطرة على منابعها النفطية التي يعتبرها كثيرون «بقرة حلابة» تدر أموال طائلة تكفي تكاليف التسليح والمعارك التي حصلت بين عدة أطراف بسبب التنازع حول «حقول النفط»، مصدر النفوذ والقوة.