“أكلة ما بتكلف”.. بساطة المطبخ السوري على موائد رمضان
عنب بلدي – خاص
من وراء طاولة صغيرة في حديقة على حافة سور اسطنبول التاريخي، وإلى جانبها غاز أرضي صغير وبعض الأواني البلاستيكية، تعد الباحثة الأكاديمية نور الخطيب أكلات شعبية في الهواء الطلق وتقدّمها عبر حلقات يومية، تنشر في مواقع التواصل الاجتماعي، خلال أيام رمضان.
قد تبدو في المشهد مفارقة غريبة، لكنّها حال المرأة السورية اليوم، التي راحت بها الحرب إلى مزاولة أعمال لم تعهدها، أو وجدت من الظروف فرصةً لتشق طريقًا في عالم كان محظورًا.
نور، شابة سورية تنحدر من مدينة الرقة، قرّرت الخوض في غمار تجربة جديدة، بتقديم برنامج رمضاني عن الطبخ الاقتصادي، يلائم ظروف السوريين وحالتهم المادية المتدهورة، ويخدم في ذات الوقت دراساتها العلمية.
ما بتكلف و”ع البساطة”
ربما تكون أغنية “ع البساطة البساطة.. تغديني خبزة وزيتونة وتعشيني بطاطا” تمثيلًا واقعيًا لحال بعض السوريين اليوم، ورغم أن عددًا منهم يعيشون ميسوري الحال، إلا أنهم يحنّون لبلدهم قبل الحرب وبساطة التركيبة المجتمعية فيه، والتي انعكست في مهنه وأكلاته وتعاملاته. من هنا جاءت فكرة فريق الإعداد في عنب بلدي بتجسيد المطبخ البسيط، تحت ظلال الأشجار في حديقة عامة، وبأدوات بسيطة ومواد طبخ أولية، لتنتج برنامجًا يوميًا لا تتجاوز مدة حلقاته عشر دقائق تحت عنوان “أكلة ما بتكلف”.
“هدفي تعريف أبناء بلدي بالطبخات الشعبية في كافة المحافظات”، تقول نور الخطيب، معتبرة أن البرنامج يثقف السوريين بالأكلات الشعبية وأسمائها غير المألوفة لدى أبناء المحافظات الأخرى، على اختلاف عاداتهم وثقافاتهم وتراث مطبخهم.
إلا أن فكرة التعريف تلك كان لا بد لها أن تلائم الظروف التي يمر بها السوريون داخل سوريا بسبب الحصار والغلاء وغياب المكونات والأدوات الأساسية للطبخ، ليوظف البرنامج بدائل اقتصادية، وصحية في نفس الوقت، تعرض يوميًا خلال شهر رمضان عبر منصات التواصل الاجتماعي التي يرتادها مستخدمو الإنترنت في سوريا، “يوتيوب” و”فيس بوك”.
كلمة “ما بتكلف” واسعة الدلائل، تقول نور، فهي لا تقتصر على الكلفة المادية للطبخة، بل أيضًا لا تكلف جهدًا ولا وقتًا، كونها تعتمد بشكل أساسي على أدوات بسيطة ومكونات متوفرة في كل منزل.
ويرى معدّو البرنامج أن فكرة التصوير الخارجي في حدائق اسطنبول، وعلى طاولة متواضعة تجلس خلفها مقدمة البرنامج متربعة، أضافت قيمة فنية إلى العمل، أضفت شكلًا “لطيفًا” خارجًا عن المألوف في معظم برامج الطبخ، التي تصور داخل مطابخ مجهزة وفي استديوهات مغلقة.
استديو الهواء الطلق لم يَرُق لبعض المتابعين في مواقع التواصل الاجتماعي، واعتبروا أن في هذه الطريقة انتقاصًا من قيمة المطبخ السوري، لكن آخرين أبدوا إعجابهم ببساطة البرنامج وبالأمكنة المختارة لتصويره، وشجعوا مقدمته، على الاستمرار في الفكرة إلى ما بعد رمضان.
ولإضافة طابع “عائلي”، عمدت نور إلى استضافة طفلة في بعض حلقاته، قالت إنها ساعدتها على تجسيد حال الأسرة في رمضان، وأضافت “نظهر على الشاشة في جو حميمي وكأننا عائلة داخل منزل”.
توثيق للمطبخ الشعبي السوري من اسطنبول
البرغل والعدس والخضار اختارتها مقدمة البرنامج لتكون المكونات الأساسية في معظم طبخاتها، وهي التي اعتمدها الأجداد في إعداد المأكولات والطبخات ذات الطابع الشعبي الخاص لدى السوريين، حتى وقتنا الراهن.
“المغمومة الحلبية”، “الزكاريط الحورانية”، “الباطرش الحموي”، “طقت ماتت الحمصية”، “ستي زبئي الشامية” وغيرها من الطبخات الخاصة بمحافظات سورية دون غيرها، قالت نور إنها اعتمدتها لتحقيق هدفها من البرنامج وتوثيق الطبخات التي ربما لم يُسمع بها لدى شريحة واسعة من الشعب السوري.
وتضيف “أدوّن كل ما هو مفيد من تعليقات الناس على الطبخات التي قد تفيدني في تطوير مشروع توثيقي مكتوب عن الأكلات الشعبية السورية”.
أما عن الطبخات العربية الخاصة ببلدان معينة، فقالت مقدمة البرنامج إنها لم تلقَ اهتمامًا كبيرًا من الجمهور السوري، الذي فضّل التعرف على تراث المطبخ السوري، ولعل تجربة “الحميسة المغربية”، رغم عدم إقبال الناس عليها، قد تكون فكرة لبرنامج آخر خاص بالأكلات العربية المتنوعة.
أفكار جديدة “ما بتكلف”
ثلاثون طبخة من المقرر أن يوثقّها البرنامج حتى نهاية شهر رمضان، إلا أن معدي البرنامج ومقدمته يرون أن فكرته قد تفتح آفاقًا جديدة في المستقبل، ومن الممكن أن تتجسد بأشكال أخرى من البرامج التلفزيونية، أو الأبحاث، أو حتى مشاريع اقتصادية.
نور الخطيب أشارت إلى أنها تنوي إعداد موسوعة توثيقية عن المطبخ الشعبي السوري، وتدرس إمكانية تطوير البرنامج ذاته ليستمر بعد رمضان بشكل موسّع، وقد تدخل فيه طبخات عربية وحلويات وسلطات وغيرها.
طبّاخة أم باحثة؟
النظرة التقليدية للمرأة المثقفة وربة المنزل كسرتها نور في برنامج “أكلة ما بتكلف”، فرغم حصولها على ماجستير بالأدب العربي وسعيها نحو الدكتوراه، لم تتردد في الظهور على أنها سيدة مطبخ، بوجود قيمة من وراء هذا الظهور.
“أفضّل الظهور على أني باحثة لا طبّاخة، إلا أن توظيف موهبتي في الطبخ يساعدني على تجسيد الوضع الإنساني لأهلنا في الداخل، وتوثيق المطبخ الشعبي السوري”، تقول نور، موضحةً أنها تمارس الطبخ منذ أن كانت صغيرة كهواية وموهبة وليس كعمل، مؤكدةً أن ذلك لن يحط من قيمتها كباحثة أكاديمية حتى وإن خرجت عن تخصصها.
ابنة مدينة الرقة، نور الخطيب، عملت مدرّسة لغة عربية ومديرة مدرسة في سوريا لسبع سنوات، ثم خرجت من سوريا في العام 2015 وعملت مُعدّة برامج في راديو “شبّاك”، الذي يبث عبر الإنترنت من تركيا، وقدّمت فيه برنامج “لما اسطنبول بتحكي عربي”، وهي تحضّر حاليًا لرسالة دكتوراه.
في نهاية حوارها مع عنب بلدي، دعت الخطيب النساء السوريات اللاجئات إلى الخارج والنازحات في الداخل إلى ابتكار مشاريع وأعمال بسيطة من هذا النوع، بما يملكنه من مواهب وهوايات مختلفة، وبما يحفظ كرامتهن، فـ “صنعة باليد أمان من الفقر”.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :